جائحة هذا القرن… تأملات فى الدروس المستفادة

هنا أبوالغار
هنا أبوالغار

آخر تحديث: الأحد 24 مايو 2020 - 5:35 م بتوقيت القاهرة

قد تكون جائحة فيروس كورونا المستجد أهم حدث إنسانى فى المائة عام الماضية. فقد استطاعت أن توقف حركة البشر بشكل غير مسبوق. حدث هذا فى عصر كل ما فيه سريع، فالفرد يتحرك بين القارات فى ساعات، والمعلومة تتحرك فى ثوان. المحصلة العلمية للإنسانية كانت تتضاعف كل قرن حتى عام ١٩٠٠، والآن فى ٢٠٢٠ يقدر أنها تتضاعف كل ١٢ ساعة.
وكأن الإنسانية مستقلة قطار فائق السرعة لا شىء يقف فى طريقه، البعض يركب فى المقدمة فى عربات الدرجة الأولى، والبعض درجة ثانية والبعض ترسو، لكن القطار يجرى بالجميع مصدرا صوتا عاليا ودخانا سميكا وسرعته لا تعطى أحدا فرصة لرؤية أى شىء من النوافذ، فالركاب لا يرون سوى حدود عربتهم وما بها من مقتنيات خاصة بهم، وفجأة يأتى هذا الفيروس ليشد الفرامل ويتوقف القطار. يحل الصمت، تتلاشى السحابة السوداء وتظهر السماء صافية، يحتار الركاب لأنهم فجأة يكشفون أن خارج النوافذ حيوات: بحار وطيور وحيوانات وأشجار وأنهار.
مما لا شك فيه أن كل فرد سيكون درسه فريدا وكل دولة تجربتها مختلفة، والمتوقع أن يستمر الدرس لسنوات بعد انتهاء الجائحة وزوال الخطر. فقد هز هذا الفيروس ثوابت العصر الحديث.
اكتشف الإنسان أن أمن الفرد جزء من أمن الكل، وثبت قطعيا أن المال والسلطة والقوة ليست ضمانة لحمايتك أو حماية أسرتك، مع هذا الاكتشاف ستتغير الأولويات ليس فقط لفرد وإنما أيضا للدول، فقد يجد رجال الأعمال أن الاستثمار فى القطاع الطبى أكثر ربحا من قطاع المقاولات، وقد تبدأ الدول فى النظر إلى الصحة والتعليم والبحث العلمى بنفس جديتها فى التعامل مع تأمين حدودها من حيث موازنة الدولة.
تبين أن التقدم العلمى الرهيب لا يحمى الدول إن لم تستثمر فى صحة كل مواطنيها، فالدول التى استثمرت فى الصحة والتعليم على مدى عقود وقدمتهم لشعوبها كخدمة مجانية وحق لكل مواطن (ألمانيا، النورويج، هولندا، الدنمارك، نيوزيلاندا…) استطاعت أن توفر أسرة عناية مركزة كافية بمستشفياتها لمرضاها طوال فترة الأزمة، وبالتالى كانت الوفيات أقل كثيرا من الدول التى لا يشمل نظامها نظام صحى سواء الأكثر حظا مثل الولايات المتحدة الأمريكية، أو الدول التى خفضت الصرف على منظومتها الصحية فى السنوات الأخيرة مثل إنجلترا وفرنسا. وهنا ملاحظ أنه بالرغم من أن أمريكا بها مؤسسات هى الأفضل فى الخدمة الطبية فى العالم من حيث النتائج الإكلينيكية والبحثية، لكنها غير متاحة إلا للقادر ماديا ولم تحم أمريكا (أغنياء وفقراء) من أن تكون من أكثر الدول إصابة وأعلاها فى الوفيات. أى أن الحماية الحقيقية للجميع فى أن توفر خدمة صحية جيدة للسواد الأعظم من الشعب.
***
استخدم الإنسان تقدمه العلمى الكبير وشغفه بالمعرفة بكل طاقته للبحث فى كل ما له علاقة بفيروس كورونا المستجد، سواء خواصه، طرق نقله، نظام العلاج الدوائى، تأثير الفيروس على الجهاز المناعى، وعلى الدم، وعلى الرئة، وعشرات الأوجه الأخرى التى تم دراستها، والموقع الإلكترونى لمنظمة الصحة العالمية يجمع كل الأبحاث التى نشرت حول هذا الفيروس فى أفرع الطب والعلوم والهندسة والكيمياء وتعدى مجموعهم الخمسة عشر ألف بحثا حتى الآن. هذه الأبحاث يسمح بنشرها بشكل استثنائى لأن عامل الوقت يجعل المجتمع الطبى يتغاضى عن قواعد «الطب القائم على الأدلة (evidence based medicine)» والتى تزن فائدة التدخل الطبى مقابل عواقبه فى أعداد كبيرة من المرضى. ومن المتوقع أن تقوم أبحاث جديدة فيما بعد بمراجعة أدق وأكثر عمقا لها، والأغلب أنها ستكتشف أن الكثير من الاستنتاجات التى بنى عليها قرارات الوقاية من المرض وبرامج علاج للمرضى كانت غير مفيدة. إلا أن حصيلة معلومات الإنسانية فى علم الفيروسات ستتضاعف والأغلب أن هذا سينعكس فى شكل تقدم طبى وتكنولوجى كبير سينقذ حيوات كثيرة من أمراض أخرى فى المستقبل.
فى مواجهة الجائحة تصرفت الدول بطرق مختلفة، كانت البوصلة فيها تتغير حسب عدد سكانها، سرعة انتشار المرض بها، حجم الشريحة السكانية ممن هم فوق سن الستين عاما، قوة منظومتها الصحية وقدرتها على الاستيعاب، والثقة المتبادلة بين الشعب والدولة كان لها أثر مهم فى نوع الإجراءات المتخذة. كل طرق التعامل هذه لن تقيم إلا بعد سنوات وقد يفاجئنا البحث العلمى بنتائج لم نكن نتوقعها، وسيذكر التاريخ نماذج لقادة دول ووزراء ومحافظين استطاعوا بإنسانيتهم وتعاطفهم وقدوتهم وتعاملهم مع شعوبهم كشركاء فى القرار أن يخلقوا قوة مجتمعية وعزيمة جمعية هزمت المرض بأقل الخسائر وسيتذكر العالم أن كثير من هؤلاء كانوا قادة نساء (ألمانيا، دنمارك، نيوزيلاند، فنلندا…).
***
عندما تم تحجيم انتشار المرض فى البلدان الأكثر إصابة عن طريق «الغلق» التام للمجتمع، بدأت تظهر مشكلة حصر الخسائر فى الأرواح الناتجة عن أمراض لا علاقة لها بالكورونا لكنها لم تلق الرعاية التى تستحقها، بالإضافة إلى الأمراض المتوقع ارتفاع نسبتها جراء الأزمة الاقتصادية العالمية التى تركت عشرات الملايين من الأسر دون عائد مادى سيؤثر لا شك فى التغذية والمناعة والأمراض المتوطنة بالإضافة إلى الأمراض النفسية ونسب الانتحار ومعدلات الجريمة. كلها وفيات يجب أن تضاف إلى حصيلة الوفيات الناتجة عن فيروس كورونا كونها ترتبت عليه أو على إجراءات الحرب عليه.
الطب المبنى على الأدلة يؤكد لنا أن «غسيل اليدين بالصابون لمدة ٢٠ ثانية بشكل متكرر» و«التباعد مسافة متر ونصف عن الآخر» هما أهم عاملين فى الحماية من المرض بالإضافة إلى تشجيع «أى شخص مريض بالبقاء بالمنزل حتى تتحسن صحته“، وأنه حتى بعد إلغاء باقى الإجراءات الاحترازية من غلق أماكن عامة ومدارس وغلق تام لبعض المدن فإن هذه التوصيات ستبقى هى الأهم لمنع إعادة ظهور المرض، وأن تأثيرها سيكون إيجابيا ومكسبا صحيا حقيقيا ليس فقط لمنع الكورونا لكن لمنع الأمراض المعدية عامة مثل الإنفلونزا الموسمية، والنزلات المعوية، والالتهاب الرئوى البكتيرى وهى كلها أمراض تحصد عشرات الآلاف من الأطفال وكبار السن فى مصر والعالم كل عام.
أخيرا يبقى الدرس الإنسانى، الرحلة الخاصة جدا لكلٍ منا أينما كان على كوكب الأرض، اكتشاف هشاشتنا أمام المرض وقوتنا فى مواجهته، أنانيتنا فى خوفنا على أنفسنا وأحبتنا وعطائنا فى التكافل الذى حدث حول العالم، خصوصيتنا الشديدة كأفراد وشعوب وصفاتنا الإنسانية ومشاعرنا التى لا تختلف من بلد وأخرى، استمتاعنا بالهدوء والطبيعة التى اكتشفناها وضعفنا أمام حياتنا العصرية التى نختار أن تحرمنا منها، منحة الوقت التى طالما اشتقنا إليها ثم حيرتنا فى كيفية استخدامه عندما حصلنا عليها.
وسيبقى التحدى الحقيقى هو علاقاتنا الإنسانية التى حرمنا منها واشتقنا إليها ثم استسلامنا لوحدتنا وتأقلمنا عليها. كيف ستتغير هذه العلاقات بعد أن تغيرنا جميعا…

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved