أحوالنا الاجتماعية في مسلسلات رمضان

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الأحد 24 مايو 2020 - 4:50 م بتوقيت القاهرة

يقول بعض نقاد الأعمال الأدبية والفنية أن علاقة مؤلفها، وأضيف مخرجها، تنتهي بخروج العمل إلى القراء والمشاهدين، ولذلك تتباين الرؤى لهذه الأعمال، كل يفسرها على هواه، والمفروض طبعا عند من يقوم بتحليل هذه الأعمال أن يلتزم ببعض الضوابط بحسب مجال تخصصه، ولذلك قد تختلف زاوية رؤيتي عن رؤية الآخرين، وهذا أمر طبيعي. وقد أسعدني الحظ بمتابعة ثلاثة مسلسلات استهوتني بمستواها الفني الرفيع، ولأنها أيضا تلقي، كل منها بأسلوبه الخاص، نظرة على واقعنا الاجتماعي، أولها ليالينا ٨٠ ومؤلفها أحمد عبد الفتاح ومخرجها أحمد صالح، وثانيها خيانة عهد تأليف أحمد عادل سلطان وإخراج سامح عبد العزيز، وثالثها بمائة وش الذي ألفه كل من عمرو الدالي وأخرجته المخرجة القديرة كاملة أبو ذكري.

هذه المسلسلات الثلاث تطرح رؤى لواقعنا الاجتماعي، بل وربما تحمل رسالة شاءها من أبدعوها من خيالهم، بطريقة أو بأخرى.
***
مسلسل ليالينا 80 هو مسلسل أزمة الطبقة الوسطى والطبقات الشعبية، هو يطرحها في إطار زمني معين هو ثمانينيات القرن الماضي، وكان بالفعل عقد الأزمة في مصر، بدأ باغتيال الرئيس الأسبق أنور السادات، واستمرت معه أزمة اقتصادية طاحنة ارتفعت فيها مديونية مصر الخارجية حتى تنبأت دوائر كثيرة بأن إفلاس حكومتها كان لا مفر منه عند نهاية ذلك العقد، وتخللته أعمال عنف من جماعات ترفع راية الإسلام طالت شخصيات رسمية بارزة وكتابا ومواطنين عاديين وسياحا أجانب، ودفعت الطبقة الوسطى والطبقات الشعبية ثمنها. انعكست هذه الأزمة في هذا المسلسل في أبعاد متعددة. بعد اقتصادي مثل ضيق الحال أمام شخصياته الرئيسية. إما لقلة الدخل، أو عدم الحصول على عمل، أو اضطراب علاقات العمل بسبب تحكم زوجة صاحب العمل، أو ممارستها الضغوط على عامل شاب يرفض إغواءها له. والبعد الثاني عائلي مثل الهرب من فتور العلاقة الزوجية بزواج آخر لا تعرف عنه الزوجة الأولى، ويرتبط بذلك بعد ثالث يتعلق بصراع القيم داخل أسر الطبقتين الوسطي والشعبية بل وداخل نفس الشخصيات. هناك المتمسكون بالاستقامة الأخلاقية مثل رقية العاملة ومريم زوجة هشام، وهناك المتمردون على نمط الحياة الموروث عن الآباء والأجداد والساعين للخروج عنه حتى لو اقتضى الأمر الانخراط في أنشطة مشبوهة كتجارة العملة خدمة لتجار المخدرات، أو الهرب مع من هو أقل تعليما ولكنه يدعي امتلاكه المال، وبدون علم الأسرة، ويدور صراع القيم داخل المجتمع بين الغالبية المتمسكة بفهمها السمح للإسلام، وبين من اجتذبتهم أفكار وأنشطة الجماعات المتطرفة، كما يدور هذا الصراع داخل النفوس، في حالة هشام مثلا الذي يعرف بأن انخراطه في تجارة العملة هو في حد ذاته غير قانوني، كما أنه يخدم أنشطة مشبوهة سواء كانت تجارة المخدرات أو جماعات متطرفة، ولكنه يقبل الاستمرار في هذا العمل.

بعض هذه الشخصيات لا تسلم بهذه الأوضاع وتسعى للهرب منها بأي وسيلة. ولذلك نجد مظهرا آخر لصراع القيم بين الأجيال. أحد جيران رقية، يعمل في أحد الملاهي الليلية، ويفقد عمله لخلاف مع صاحب الملهى، ولكنه يسعى لإقناع صاحب الملهى بأن يخرج له شريطا يمكن أن يكسبه شهرة ومالا يستفيدان منه. وبدرية تستميل مرتضى صاحب المصنع الذي تعمل فيه ليتزوج منها وتؤمله بأن تحقق له حلمه بأن يكون له ابن منها عوضا عن إخفاق زوجته الأولى التي لم تنجب له سوى ابنتان، ونجوى ابنة رقية تقبل بالهرب مع أحد تجار العملة أقل تعليما منها والذي أغراها بادعائه امتلاك الكثير من المال. وبعيدا عن صراع الأجيال، فالبحث عن مخرج ظاهر في حالة هشام الذي هاجر للخليج وعاد ليستمر في تجارة العملة، وحتى في حالة زوجته مريم التي اكتشفت خيانته لها بزواجه السري من أخرى وتورطه في أنشطة لا تعرف عنها شيئا، تناضل لتربية ابنتها التي فقدت بصرها وتأمل علاجها، تصمد أمام دعوة مديرها في العمل للزواج منها، ولكنها ترضخ لعرضه عندما علمت بهرب زوجها إلى الخارج تخوفا من نقمة تجار العملة والمخدرات عليه. ولكن لا يبدو إطلاقا أن الاجتهاد في العمل أو التفوق في الدراسة هو المخرج من هذه الأزمات.

ولكن كل الطرق مغلقة أمام الطبقة الوسطى والطبقات الشعبية. هشام تحرر في النهاية من تهديدات تجار العملة والمخدرات بمساعدة الشرطة، وتصالح مع زوجته الأولى بعد موت زوجته الثانية ضحية اعتداء عصابة المخدرات عليها، ولكنه يلقي حتفه على يد الجماعات المتطرفة التي قتلته لتواجده مع زوجته المتبرجة في سيارة، وخطط نجوى للهرب مع تاجر السوق السوداء لا تنجح مع اكتشاف أسرتها محاولتها الهرب. وراضي ابن رقية لا يوفق في العثور على عمل مناسب، وينتهي المسلسل وجميلة ابنة هشام ومريم مازالت غير مبصرة. كما ينتهي أيضا وقد فرضت الجماعات المتطرفة قواعدها في السلوك وبالعنف على سكان الحي الشعبي.

ومع ذلك هناك بصيص من الأمل يتركه لنا هذا المسلسل مع جلال شقيق هشام، أستاذ الفلسفة والرجل المسن الذي يحن إلى الحي الشعبي ويذهب للإقامة فيه، بل ويفتتح فيه محلا للحلويات يجد فيه أبناء الحي عملا مجزيا، بما في ذلك رقية وابنها راضي وابنتها فاطمة وأبناء الحي الآخرون. ويسمي هذا المحل "الحلواني" مما يذكر بأغنية أحمد فؤاد نجم والشيخ إمام: "اللي بنا مصر كان في الأصل حلواني". بل وينتهي الأمر بزواجه من رقية. اندماج مثقف الطبقة الوسطي مع الطبقات الشعبية هو المخرج الصحيح الذي يتركه لنا هذا المسلسل.
***
المسلسلان الآخران يستكملان في رأيي قصة الطبقة الوسطى والطبقات الشعبية في ليالينا ٨٠، دون أن يقصدا ذلك. مسلسل بـ١٠٠ وش يفتح للطبقات الشعبية وللساقطين من الطبقة العليا من خلال الكوميديا طريقا آخر، هو بالفهلوة. عمر ابن حي الزمالك الذي ضاقت السبل بأسرته لا يجد سبيلا آخر للتمتع بمستوى الحياة الراقي سوى بالنصب، ويلتقي بسكر ابنة حي بولاق التي لجأت أيضا لنفس الأسلوب، ثم بعد أزمة بسيطة بينهما يشكلان عصابة تنجح في مواصلة النصب من خلال البراعة في فن التنكر بتغيير وجوه أفرادها بحسب سياق كل مغامرة يقومون بها، بالاحتيال مرة على بنك، ومرة أخرى بادعاء بيع شقة في حي يسكنه الأثرياء، ومرة ثالثة بتمثيل مكتب زواج، وبعد ذلك إقامة مدرسة ألمانية، ومرة أخيرة بالتظاهر بتسهيل بيع قطعة أرض لحساب غريم عمر الذي يقيم في حي الزمالك، وخطف منه حبيبته السابقة، ولكن خطأ زميلة لهم يكاد أن يوقع بهم في أيدي الشرطة التي عرفت بحالات النصب، ولكن هناك حدود للفهلوة، تفرضها الشرطة التي تنجح في القبض على اثنين من أفرادها، ويفرضها الوسيط الذي لجأوا إليه لتهريب ما حصلوا عليه من مال إلى سويسرا، ويستولى هو عليه، ولا يبقي أمامهم بعد هربهم إلى سويسرا سوي التسول على الطريقة السويسرية، أي أن يصبحوا مهرجين في الشوارع.
***
المسلسل الآخر يحذر الجميع من الاقتراب من الطبقة الأثرى في المجتمع وشخوصه من أصحاب الشركات الكبيرة، يقيمون في نزل واسعة، ويترددون على نوادي فخمة، ويقودون أحدث السيارات، ولكنهم جميعا يتآمرون على بعضهم البعض. أبناء أسرة واحدة، فرح ومروان شقيقا عهد، من أم أخري، يحقدان عليها، ويحاول مروان إخراجها من الشركة التي ورثوها عن أبيهم، وتسعي فرح لقتل ابن عهد ببطء من خلال حقنه بالهروين مستغلة نهم شيرين صديقته للمال، بل وتقضي على حياته مرغمة شيرين علي التواطؤ معها بعد شفاء هشام واكتشافه تآمر فرح وشيرين عليه. تعرف بذلك عهد، وتسعي للانتقام منهما بتهديد شيرين بالتعاون معها بعد أن عرفت بدورها في مقتل ابنها، وتنجح في النهاية بدفع مروان لقتل زوجته بعد أن أوصلت له تسجيلا باللقاءات الحميمة مع شريكه في العمل، والذي كان يتآمر معه أيضا ومع زوجته لإخراج عهد من الشركة، كما تدبر جريمة الإتجار في المخدرات لفرح، بعد أن وضعت سرا كميات ضخمة من الهيروين ومبلغا كبيرا من المال في حقيبة سيارتها التي كانت قد اشترتها لها. ثم تذهب للقاء كل منهما في نيابة السجن الذي أودع كل منهما فيه لتصرح بأنها وراء ما يجري لكل منهما انتقاما لتورط مروان في مقتل زوجها، ومحاولة إخراجها من الشركة، ولمقتل ابنها على يد خالته. الشر وتفكك العلاقات الأسرية ليس لصيقا بهذه الطبقة. الأجيال الأصغر مثل على وسارة يعدان بأن يكونا نموذجين مختلفين عن والديهما. الصورة العامة عن هذه الطبقة هي الروح الشريرة، والأنانية، والخداع، والتجرد من كل المعايير الأخلاقية، وتجاهل كل روابط الدم التي تربط بين أعضائها.
***
اللافت للانتباه في هذه المسلسلات هو صورة المرأة فيها. المرأة في كل منها ليست هي المرأة الخنوع الخاضعة لسيطرة الرجل، بل هي شخصية مستقلة، مبادرة وجريئة، وحتى عندما تضيق بها الظروف الاقتصادية أو العائلية، فهي لا تفقد رباطة جأشها، ولا تنهار. بل كلهن يتخذن المبادرة. المثل الواضح هو رقية العاملة ومريم الزوجة الأولى لهشام في مسلسل ليالينا ٨٠، وسكر في بـ ١٠٠ وش، وعهد وفرح وشيرين في مسلسل خيانة عهد. تختلف تلك الصورة ربما عما شهدناه في رواياتنا وفي بعض أفلامنا. شخصية أمينة في ثلاثية نجيب محفوظ لم تعد نمطا شائعا في هذه المسلسلات.

المجتمع الذي ترسم هذه المسلسلات صورته هو طبعا مجتمع مصري، ولكن يغيب عنها تنوع هذا المجتمع. طبعا هناك تنوع الطبقات وأنماط الحياة، ولكن أتساءل، لماذا يغيب المسيحيون عن هذه المسلسلات. كان من المألوف في سنوات مضت وقبل ثورة يناير حضور المسيحيين في المسلسلات كبشر عاديين، لهم نصيبهم، مثل كل البشر من كل النزعات. أظن أن ذلك توقف، وأعترف أن ملاحظتي هذه انطباعية إلى حد كبير. ولكن من المفيد أن يظهر المجتمع المصري بكل تنوعه في الأعمال الأدبية والفنية، فهذا تأكيد على ثرائه الثقافي، واحتفاء به في نفس الوقت.

وأخيرا، هل تختلف أوضاع الطبقة الوسطى والطبقات الشعبية في مصر الآن عما صورته ليالينا 80 في عقود ماضية؟ هل تتفتح أمام أبنائها فرص العمل اللائق وعلاقات العمل الصحيحة وفرص الصعود الاجتماعي بالطرق المشروعة؟ وهل اختفت مظاهر الفساد التي أشارت لها المسلسلات الثلاث؟ وهل انتهى صراع القيم داخل نفوس أفرادها؟ هذه أسئلة مهمة تتركها هذه المسلسلات معنا.

استمتعت كثيرا برؤية المسلسلات الثلاث، وتأكدت قناعتي بثراء مصر بالمواهب في كافة الميادين، وبحاجتها إلي قائد أوركسترا ماهر ينجح في قيادة كل هذه المواهب. وبالطبع لا أضيف جديدا عندما أشترك مع آخرين في الإعجاب بالقمم الفنية التي شاركت في التمثيل وفي إخراج المسلسلات الثلاث، ولكني انبهرت خصيصا بأداء غادة عادل في ليالينا ٨٠ وفرح في خيانة عهد. تفوقت كل منهما في أداء دور صعب، وجديد على كليهما.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved