فوائض الإحباط فى المونديال
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأحد 24 يونيو 2018 - 9:00 م
بتوقيت القاهرة
الظاهرة تستحق التوقف عندها بالبحث فى خلفياتها وأصولها وما تحمله من إشارات ورسائل.
بدا الإحباط الجماعى جارفا بعد الخروج المبكر للمنتخب المصرى من مونديال موسكو، رغم أنه لم يكن مرشحا لتجاوز الدور الأول إلا بمعجزة ما.
المشاعر العامة تناقضت من الرهان على مثل هذه المعجزة، التى لا تتوافر مقوماتها وأسبابها، إلى إحباط زادت فوائضه عن أى حد، كأنه انعكاس لأمور أخرى تخرج عن نطاق كرة القدم وعوالمها.
لماذا وكيف حدث هذا التناقض الحاد فى المشاعر العامة؟
السؤال فى علم النفس الاجتماعى وإجابته تساعد على فهم ما يجرى حولنا وداخلنا من تفاعلات مكتومة.
أكثر الاستنتاجات تماسكا أن الإحباط الزائد تعبير عن مجتمع مأزوم يبحث عن أمل دون جدوى.
فى البحث عن أمل يبهج ويوحد بين أقدام اللاعبين تصاعدت الرهانات دون أساس حقيقى تستند إليه.
هكذا كانت ردة الفعل عكسية، كأنه سقوط من حالق على أرض صلبة.
العمل الرياضى تنافس فيه المكسب والخسارة.
يوصف تقبل الخسارة فى مثل هذه المنافسات بـ«الروح الرياضية»، التى تستدعى وفق ما هو مستقر من أصول التعرف على أسبابها فى حدود اللعبة لا خارجها كنقص الجاهزية وخلل الإعداد والتدريب وقلة الخبرة والإمكانات المتاحة.
عندما تتسع دوائر الإحباط من اللعبة وحدودها إلى المنظومة الرياضة وكل ما يتحرك ويؤثر ويصنع قرارا، فإننا أمام أوضاع تفاقمت أزماتها، لا مسابقة كرة قدم جرى الخروج منها مبكرا.
فى الدور الأول من المونديال تعثرت فرق كبيرة لها شأن وتاريخ فى عالم كرة القدم على نحو طرح تساؤلات حول مدى قدرتها على إحراز البطولة، وما إذا كانت هناك مفاجآت تحملها الأدوار الإقصائية التالية تحرزها فرق لم تكن فى قائمة الترشيحات الأولى.
علقت مشانق لمدربين كبار وجرت مساءلات بقدر الدموع التى سالت، كما حدث مع المنتخب الأرجنتينى بعد تلقيه هزيمة مذلة من نظيره الكرواتى، دون أن تمتد المساءلات خارج مستطيل الملعب إلى كل شىء فى الأرجنتين.
المفاجآت أحد دواعى سحر كرة القدم، فليس هناك شىء مقرر سلفا، وإلا فقدت المنافسات جاذبيتها، لكن لا مفاجآت من فراغ، أو على غير أساس، ولا هزيمة بلا أسباب.
ذلك فارق ثقافى بين التعويل على معجزة ما، أو تطلع مستغرق فى الأمانى المحلقة، وبين جدية الإعداد وكفاءة التدريب وتوافر اللاعبين الموهوبين أصحاب الخبرة فى الملاعب الدولية ومدى الانسجام بينهم كفريق وسلامة المنظومة كلها.
التعويل على معجزة ما هزيمة مسبقة والتخطيط وفق العلوم الحديثة فى كرة القدم قدرة تنافس.
تلك بديهية نتجاهلها غالبا فى الميدان الرياضى، كما فى الميادين الأخرى، بشىء من «الفهلوة» والادعاء.
عندما تأهل المنتخب المصرى للمشاركة فى المونديال بعد غياب (٢٨) عاما أخذت البهجة العامة مداها، جرت تعبئة إعلامية احتفالا بالإنجاز الكبير، وبثت أغنيات أعدت خصيصا فى نفس اليوم، وأسبغت على الجيل الحالى من لاعبى كرة القدم أوصافا وضعتهم فى مكانة خاصة بالقياس على الأجيال التى سبقتهم وعجزت عن مثل هذا الإنجاز.
كان ذلك طبيعيا لكن سقف الرهانات ارتفع على نحو غير طبيعى، فالمنتخب لا يضم باستثناء «محمد صلاح» لاعبين لهم خبرة يعتد بها فى فرق دولية كبيرة، وبعضهم يحاول أن يشق طريقه بقدر موهبته، كما أن ملاعب كرة القدم المصرية خالية من جمهورها والمنظومة الرياضية عليلة.
ثم حدث انقلاب عكسى من المدح المبالغ إلى القدح المفرط دون سعى حقيقى لوضع الأمور فى نصابها والرهانات فى حدودها.
هذا النوع من الثقافة الشائعة تغيب عنه العقلانية اللازمة لأى مجتمع ليتجاوز أزماته المستحكمة ويعرف بالضبط وجه الخلل فى منظومته الرياضية وحدود وقائع الفساد التى تضربها.
عندما لا يواجه الخلل فى موضعه ووقته وتكون هناك تحقيقات تعلن نتائجها أمام الرأى العام فيما هو منسوب من اتهامات بالتجاوز فى المال العام داخل أندية كبيرة، أو فى اتحاد كرة القدم، لن تتوفر أية ثقة فى أية منظومة رياضية وغير رياضية، ولن يكون ممكنا التطلع إلى تحسين مستوى الأداء العام فى كرة القدم ولا غيرها.
القواعد مسألة أساسية لنهضة الشعوب، وهذه مسألة احترام قانون.
إذا أهدرت القواعد فكل شىء مباح وكل الاتهامات مشرعة.
قائمة الاتهامات تطول ظروف وملابسات إرسال وفود فنية وإعلامية وبرلمانية لتشجيع المنتخب، وهذه بذاتها لا غبار عليها، شرط ألا تكون على نفقة مال عام.
إذا لم تكن هناك مساءلة حقيقية فى هذا النوع من إهدار المال العام بالمحسوبيات والمجاملات، أو بسوء تقدير لما يجوز أو لا يجوز، فإن الثقة العامة فى نزاهة مؤسسات الدولة سوف تأخذ مدى غير مسبوق.
وإذا لم يكن هناك تحقيق فيما هو منسوب للوفود التى أرسلت من اقتحام مقر إقامة المنتخب لالتقاط الصور مع لاعبيه، كأنه «فرح العمدة» كما قيل وتردد، وإذا لم تكن هناك وقفة مع السماح لرجل أعمال بالدخول على عكس القواعد المرعية إلى حيث تدريبات اللاعبين، فإنه يصعب الحديث عن أى أمل فى الإصلاح.
الهزيمة الحقيقية فى غياب القواعد والأصول والبيئة العامة قبل نتائج المباريات المخيبة.
أما البحث عن أكباش فداء فهذه عادة قديمة حتى لا ننظر فى المرآة ونعرف تشوهات الصورة.
كان المدير الفنى للمنتخب المصرى «هكتور كوبر» كبش الفداء، الذى انصبت عليه اللعنات وحده.
باليقين فقد أنجز المهمة الموكلة إليه، وصل إلى المباراة النهائية فى بطولة الأمم الإفريقية وصعد بالمنتخب إلى المونديال بعد غياب طويل، غير أن مبالغته فى الخطط الدفاعية حرم المنتخب من أن يثق بنفسه وفى قدرته على إحراز الفوز وأفقد الكرة المصرية جمالها.
كان ممكنا تحسين الأداء وأن يلقى المنتخب المصرى عطف شعبه كالمنتخب المغربى، الذى خرج من الدور الأول بعد أداء جدير بالاحترام، لكن كل التصرفات أفضت إلى فيض من الإحباطات الجديدة.
لا يحدث فى أية إحباطات رياضية أن يتسع غضبها إلى كل الملفات مرة واحدة السياسية والثقافية والاجتماعية، إلا إذا كان المجتمع مأزوما فى أمله ويستشعر ضيقا فى تنفسه.
تلك أخطر رسائل فوائض الإحباط فى المونديال.