نظام «الحرب الباردة» الجديد آخذ فى الاستقرار
ناصيف حتى
آخر تحديث:
الإثنين 24 يونيو 2024 - 6:35 م
بتوقيت القاهرة
كثيرون حذروا، وحذرنا، من أن منطق الحرب الباردة -الذى طبع النظام الدولى بعد الحرب العالمية الثانية، وسقط مع سقوط الاتحاد السوفياتى، ومع التداعيات التغيرية الكبرى لذلك السقوط - آخذ بالاستقرار كسمة أساسية تطبع النظام الدولى الجديد. النظام الذى ما زال فى طور التشكل ولم تستقر قواعده بعد، والعالم ما زال فى حالة انتقالية توصف بنظام «ما بعد بعد الحرب الباردة». أحداث ثلاثة مؤخرًا تؤكد ذلك.
أولًا، المؤتمر الدولى الذى استضافته سويسرا لصنع السلام فى أوكرانيا ولم تدع إليه روسيا وقاطعته الصين الشعبية. لم توقع على بيانه الختامى العديد من الأطراف الدولية من «الجنوب العالمى» التى تتخذ موقفًا وسطيًا بهدف دعم التسوية السلمية لهذا النزاع المستمر والمتزايد، باعتبار أنه غير متوازن فى الموقف الذى حمله وخاصة مع عدم دعوة روسيا للمشاركة.
ثانيًا، قمة «مجموعة السبع» أو قمة القوى الغربية، التى تضم اليابان أيضًا باعتبارها غربية فى السياسة، أخذت موقفًا متشددًا تجاه روسيا فى سياق السياسة التى تتبعها هذه القوى الغربية تجاه الحرب الدائرة فى أوكرانيا، وذلك من أبرز الأمثلة على ما أشرنا إليه حول طبيعة الصراع الدائر، والذى يغذى ويتغذى على الحرب المفتوحة فى الزمان، والتى يحذر البعض من أنها قد تتوسع فى المكان.
الحدث الثالث تمثل فى القمة الروسية الكورية الشمالية مع زيارة الرئيس الروسى إلى بيونجيانج وتوقيع اتفاق التعاون الاستراتيجى الشامل بين الدولتين: مؤشر فى سياسية المواجهة التى تعتمدها روسيا ضد ما تعتبره محاولة عزلها أو إضعاف دورها فى منطقة المحيط الهادئ: المنطقة التى تحظى بأهمية استراتيجية كبرى لموسكو فى «لعبة الأمم».
على صعيد آخر، يجرى الحديث عن ازدياد قلق الصين الشعبية من محاولات أمريكية غربية لتعزيز قدرات تايوان على مختلف الأصعدة ولو دائمًا تحت عنوان عدم المس بمبدأ «الصين الواحدة» فى الوقت التى تودى هذه السياسة إلى تعزيز توجه تايوان عمليًا وفعليًا ضد هذه السياسة. وإذا كان الغزو الصينى الشامل أو الحصار العسكرى لتايوان مستبعدًا فى ظل الأوضاع القائمة، فلقد حذر البعض من أن الصين الشعبية قد تلجأ، إذا ما شعرت بأن هنالك مخاطر على رؤيتها لمستقبل العلاقات مع تايوان، كما تراها أو تتطلع إليها بكين، إلى القيام بما يعرف بـ«الحجر الصحى الكامل أو الجزئى» على تايوان لقطع أو تصعيب الوصول إليها. سياسة حذر البعض من أن بكين قد تلجأ إليها إذا ما شعرت مستقبلًا أن الخطوط الحمر التى حددتها للاستمرار فى إدارة الوضع القائم، وحماية أمنها القومى، يجرى تخطيها بشكل تدريجى: إنه عنصر آخر يدفع فى تعزيز منطق الحرب الباردة.
قد يحصل ذلك مع تحول الصين الشعبية من توظيف موقعها الذى يزداد قوة وأهمية فى الجغرافيا الاقتصادية العالمية، لتعزيز موقعها فى الجغرافيا السياسية فى النظام الدولى الذى يتشكل. ونرى إرهاصات هذا الدور فى مختلف مناطق «الجنوب العالمى» فى لعبة التنافس مع الولايات المتحدة وبشكل أكثر مرونة مع روسيا الاتحادية. صحيح أن «المسرح الاستراتيجى الأوروبى» عاد عبر الحرب فى أوكرانيا وحولها إلى «احتلال» موقع الساحة الرئيسية فى الصراع الدولى المتشابك والمتصاعد، لكن «مسرح المحيطين الهادئ والأطلسى» مرشح للعب دور أساسى فى صياغة نظام الحرب الباردة الجديدة: النظام الذى يتبلور أكثر كل يوم كما يدل على ذلك غياب أى أفق فعلى حتى الآن للتوصل إلى حل سياسى سلمى تفاوضى للحرب الأوكرانية. وللتذكير فإن الحل لا يمكن أن يمر عبر انتصار طرف على الآخر، وهو أمر مستحيل بسبب طبيعة الحرب والصراع الذى تواكبها أيضًا الأطراف المشاركة بأشكال مختلفة. الحل كما يذكر كثر، يستدعى أخذ المصالح الحيوية لطرفى الحرب والنزاع بعين الاعتبار: حلّ قوامه الحفاظ على الوحدة التربية لأوكرانيا وإيجاد صيغة للسلطة تقوم على احترام التنوع المجتمعى، كما يدل على ذلك تاريخ بعض المناطق، تحت سقف الدولة الواحدة الموحدة بالطبع، وأخيرًا تحييد أوكرانيا عن الصراع الاستراتيجى، بسبب دقة موقعها الجغرافى أيضًا. فلا يمكن أن تكون عضوًا فى منظمة حلف شمال الأطلسى لما يشكله ذلك من تهديد للأمن الاستراتيجى الروسى. تهديد ترفضه أيًا كانت القيادة التى تجلس فى الكرملين. ويبدو أن أوكرانيا أمام احتمالين حاليًا؛ إما أن تبقى نقطة ساخنة ومشتعلة فى الصراع الدولى الذى يتبلور بين الأقطاب القائمة والعائدة، أو أن تشكل نموذجًا مستقبليًا للتعايش السلمى الواقعى فى «لعبة الأمم» المتجددة ببعض عناوينها وليس بطبيعتها.