غــزة: كلمات معادة التدوير

أهداف سويف
أهداف سويف

آخر تحديث: الخميس 24 يوليه 2014 - 8:50 ص بتوقيت القاهرة

فى مايو ٢٠١٢، وفى إطار الاستعداد لإقامة «احتفالية فلسطين للأدب» لذلك العام فى غزة، نشرت مقالين فى جريدة «الشروق»، أعيد تدويرهما هنا فى ظل الظروف الحالكة التى نمر بها هذه الأيام.

المقال الأول: ٢ مايو ٢٠١٢

مساء ١١ فبرير ٢٠١١، حين احتفلنا بما اعتقدنا وقتها أنه الاسترداد الفورى لمصرنا كاملة غير منقوصة، صدح فى سماء التحرير نشيد «وطنى حبيبى الوطن الأكبر». لم يسبقه أو يُبَدَّى عليه غير أغنية عبدالحليم، «بالأحضان». فى تلك اللحظة؛ لحظة عودتنا إلى أنفسنا، بدأنا باسترداد وضَمّ مصرنا لنا، ثم، وبعد دقائق معدودة، ذكَّرناها وأنفسنا بتاريخها وموقعها ومسئولياتها فى منطقتنا. سنين وعقود من عدم التزام حاكمينا بهذه المسئوليات، بل والعمل فى الاتجاه المعاكس لها، والمعاكس، أيضا، لمصلحتنا كمصريين..

فى ١٠ فبراير ٢٠٠٩ توجهت إلى رفح، وكان وقت القصف الإسرائيلى لغزة. لم أتمكن من الدخول إلى القطاع، لكنى اقتربت بقدر ما استطعت؛ جلست على بوابة الحدود، كانت الـ«زنانة» تطير فوقنا، وكنا نسمع القصف من الداخل، وكان فريق من كبار أطبائنا المصريين ــ بينهم الدكتور محمد غنيم والدكتور عبدالمنعم أبوالفتوح ــ موجودين بالداخل، حيث تطوعوا للعمل فى مستشفى الشفاء بغزة (وانتظروا أياما على الحدود قبل أن يسمح لهم بالدخول)، وكانت القاطرات المحملة بما جمعه الشعب المصرى لأشقائه فى غزة من عون ودواء تصطف على الطريق آملة أن يسمح لها بتوصيل هذه الأمانة لأهلها. ذهبت إلى مستشفى العريش وقابلت أطباء من خيرة شبابنا، استأذنوا من أعمالهم، وتوجهوا أيضا إلى الحدود ليقدموا العون لضحايا العدوان الإسرائيلى. وكنت فى المساء أتجول فى مدينة العريش، وأرقب الكل يرقب التلفزيون، وأرى القهر فى العيون، وأستمع إلى الناس وأصحاب المحال والمقاهى؛ الكل يشعر بمذلة التواطؤ: إسرائيل تقتل أطفال غزة وشبابها بالقنابل الفوسفورية والمصريون على بعد بضعة كيلومترات يجلسون على أيديهم لا حول لهم ولا قوة. حكومتهم توصد المعبر فى وجوه أهلهم، وتنسق مع العدو المشترك.

أملنا أن تكون احتفالية هذا العام هى الأولى فقط، وأن يتسنى لنا ولغيرنا القيام بأشكال مختلفة من النشاط والتعاون مع أهلنا وجيراننا.. المجتمع المدنى حىّ الضمير فى العالم يركب البحر ويسافر ليعبر عن تضامنه مع أشقائنا فى غزة. الناشطون الأتراك تغتالهم إسرائيل فى المياه الدولية وهم يحاولون كسر الحصار المفروض على أهلنا. والعالم يسأل: هل ستغير ثورة مصر، صحوة مصر، من الظروف التى تعيشها فلسطين؟ لا أزعم أن الأدب والفن هما أهم ما فى الحياة، ولا أن الكتابة والغناء يغنيان عن الفعل السياسى والاقتصادى. لكن أزعم أن لهما دورا أكيدا فى تشكيل التوجهات والمناخ، وفى دعم الإخوة والعزيمة. وعلى كل حال، كل واحد يعمل اللى فى إيده. «احتفالية فلسطين للأدب» هى كتاب وأدباء وفنانون مصريون وعرب، ينطلقون من الأراضى المصرية، ليعَبِّروا عن تضامنهم مع أهلهم فى غزة، وليحققوا التواصل الثقافى الذى يتوق له أهلنا هناك والذى حرمنا جميعا منه طويلا، وليُظهروا أمام العالم أن مصر قد تحررت من دور السجان وصانع الوقيعة لأشقائه وأنها عادت إلى دورها الحاضن والراعى والمحب ...

•••

المقال الثانى: ٩ مايو ٢٠١٢

أبدأ من التعجب الذى ارتسم على وجوه كل من قابلناهم من ممثلى السلطة فى نقاط التفتيش على الطريق من القاهرة إلى رفح، كلما أجبنا عن أسئلتهم حول من نحن ولماذا نحن هنا بأننا مجموعة من الكتاب والفنانين المصريين والعرب، ذاهبين إلى غزة لإقامة مهرجان ثقافى.

أو أبدأ من التباس المشاعر الذى أصابنى حين خرجنا من القاهرة ولمحت، على جانب الطريق، لافتة كبيرة من لافتات المرور الزرقاء المخطوطة باللون الأبيض، تعلن أننا على طريق يؤدى إلى «الإسماعيلية/ العريش/ فلسطين». عادى كده. غريب أن أرى اسم ذلك المكان البعيييييد إجرائيا، واضحا معلنا على لافتة مرور، عادى.

أو أبدأ بالدخول إلى مدينة غزة والبحث فى نفسى عن أى شعور بالغربة ــ واستحالة أن أجده. مدينة عربية، وربما أكثر المدن العربية التى زرتها قربا من الـ«مصرية». وكأنك دخلت المنصورة، مثلا. فيما عدا الظلام؛ فغزة، كما يعلم الجميع تعانى من نقص حاد فى الوقود: أنوار الشوارع مطفأة، وأنوار البيوت مخفضة، وعند محطات البنزين ترى السيارات متراصة، يمتد طابورها إلى الشارع، تنتظر الوقود. وفى قاعة الدرس فى جامعة القدس ــ القاعة التى احتشدت بأكثر من مائة طالبة، جئن للقاء خالد الخميسى، وطارق حمدان، وأنا، ينقطع التيار الكهربائى على فترات منتظمة؛ كل عشر دقائق تقريبا. ينقطع التيار الكهربائى فينطفئ النور. والغريب أن البنت التى تتحدث تستمر فى الحديث، عادى، ويوقد البعض كشافات الهواتف المحمولة. وبعد دقائق نشكو من الحر الشديد، فيفتحوا لنا النوافذ، والنوافذ مطلة على حوش داخلى فيدخل إلينا ضجيج الشباب المنتظر خارج قاعات الدرس. وفجأة يضىء النور وتبدأ المراوح فى الدوران فنُطفئ الكشافات ونغلق النوافذ ونستمر، وبعد عشر دقائق تنقطع الكهرباء، وهكذا. عشر دقائق فى عشر دقائق. ونتعلم من الطالبات كيف نستمر؛ كيف نأخذ الأمر بشكل طبيعى ونستمر.. البنات جميلات: بنات ذكية، جسورة، مهذبة، قارئة، يستمعن ويعلقن ويسألن، وأسئلتهن تركض، تطير، من الأدب إلى السياسة، من النص إلى العالم، من المجرد إلى المتجسد. ونستمر أربع ساعات. لم أر فى حياتى طلبة مستعدين، راغبين، فى أن يستمروا فى حوار ونقاش لمدة أربع ساعات، تنتهى لأن القاعة مطلوبة وليس لأنهم اكتفوا.

الزملاء الذين أقاموا ورش عمل فى المدارس يقولون نفس الكلام: التوقد مع البشاشة مع الاهتمام. شباب عايزين يتعلموا، وعايزين يتكلموا. يشكروننا لأننا أتينا إليهم، ونجيب ــ بصدق ــ أننا نأخذ منهم أكثر مما نعطيهم..

الضابط ــ أحد الضباط ــ فى معبر رفح، يقول.. «أنا بانصحك تاخدى الوفد بتاعك ده وترجعوا.. الناس دى مش محتاجة حاجة.. الناس دى مرتاحة جدا.. المعونة بتروح لهم لحد عندهم.. انا باشوفهم هنا. واحد صارف ألفين جنيه عشان ينزل مصر. يبقى محتاج إيه؟»، «بس الناس دى محاصرة. مسجونة يعنى»، «باقول لحضرتك هم مش محتاجين حاجة. عموما إنت حرة». فعلا، أنا حرة، وهم كمان محتاجين حرية. ومحتاجين تواصل. يشكروننا على المجىء. يخجلوننا. يقولون إن الحصار، ذلك الاحتلال المختبئ المناور، يحول غزة إلى قضية إنسانية بدلا من قضية سياسية، وأن المعونة تصلهم ــ بحساب ــ والمتضامنون الأجانب يأتون إليهم. لكن من يفهم القضية قليل، ولذا فالزوار العرب شىء آخر. والمصريون شىء بعد الآخر. «مصر هى الأم»، يقولون، «ونحن إخوة. وصار لنا زمن طويل لم يزرنا اخواننا».

يفدون أمما أمما إلى مركز رشاد الشوا الثقافى، حيث قاعة المسرح التى تسع ثلاثة آلاف والتى امتلأت عن آخرها بالشباب والشابات والأمهات والأطفال والرجال. إعلام القطاع كله هنا. وحين يُفتح الستار عن فرقة إسكندريللا يهب الجميع واقفا وتدوى القاعة بالتصفيق والصفير. يحبونهم ويحفظون أغانيهم ويطالبون بأغنية وراء أغنية. يصفقون لاسم فؤاد حداد، وصلاح جاهين، وأحمد فؤاد نجم. يهتفون للتحرير. يصفقون تصفيق الأولتراس ويهتفون لمصر. لا يكادوا يصدقون أنهم يسمعون اسكندريللا ــ بلحمهم ودمهم ــ هنا فى غزة. وبدورهم يلهمون اسكندريللا فتبدع الفرقة..

المفارقات عجيبة: الحكومات والإجراءات كلها عن الفصل والتمييز والعقبات والتعجب. أما الناس ــ سواء نحن أم هم ــ فنتعامل على أننا أهل. نحن أهل؛ التاريخ والجغرافيا واللغة والطرب والأناشيد واحدة؛ فى الفندق، من غرفة العاملين فى الواحدة صباحا يعتب علينا عبدالحليم: صافينى مرة وجافينى مرة وماتنسانيش كده بالمرة. البحر واحد والرمال والصخور والكراسى البلاستيك والشمسيات التعبانة وساندوتشات الطعمية (أو الفلافل) وعليها الشيبس ــ لن أقول كلها واحدة، فهى ليست واحدة بالضبط، هى أجمل وأثرى من واحدة، لأنها تنويعات على مقام واحد.

فى الليل تضوى الكشافات على البحر، فقد قررت إسرائيل أن غزة يكفيها بحر عرضه ثلاثة أميال من الشاطئ يصطاد فيه صيادوها السمك، ومن يخرج عن الأميال الثلاثة يخطفونه. وكل يوم يخطف الإسرائيليون مركبا خرجت عن الحود المسموح بها، الحدود التى يرسمونها بالضوء.

المفارقات العجيبة: نحو ستة آلاف مبنى دمرها القصف الإسرائيلى، حوالى ألف وأربعمائة شهيد، الأسرى فى السجون، والحصار الذى يهدف إلى القتل البطىء ــ وفى ظل كل هذا الموت هناك كم من الحياة المتدفقة المندفعة. الشباب والصبايا يتفجرون حيوية ودفئا، وكنت أعنى ما قلت: أخذنا أكثر كثيرا مما أعطينا. أخذنا من حيويتهم، وطاقتهم، وإقبالهم على الحياة وتمسكهم بها. خرجنا جميعا متفجرين بالحماسة وبالأمل وبالإصرار: يمكن للدنيا أن تكون أجمل كثيرا.

•••

اليوم، الحياة ليست أجمل. فى غزة، ومن ٨ إلى ٢٢ يوليو قتل الجيش الإسرائيلى على الأقل خمسمائة من الفلسطينيين، بينهم على الأقل ثلاثمائة وعشرين طفلا (http://tinyurl.com/n9zbbjf)، كما أصاب أكثر من ثلاثة آلاف وخمسمائة شخص، واستهدف الطيران الإسرائيلى البيوت فهدم نحو ربعمائة وثمانين بيتا، وأصاب آلاف البيوت، كما تسبب فى تهجير أكثر من مائة ألف من السكان، وجعل من ٤٣٪ من أرض غزة مناطق «غير آمنة» (http://tinyurl.com/nxjoz7f).

حكومات العالم متواطئة، لكن المجتمع العالمى ثائر. المتظاهرون فى الشوارع بأعداد غير مسبوقة، يساندون فلسطين فى مدن العالم من سان فرانسيسكو إلى طوكيو، أصوات الكثير من مواطنى العالم من اليهود مرتفعة تدين إسرائيل. المنظمات العالمية ــ سواء مضطرة أو راضية ــ بدأت فى اتخاذ مواقف. أتوقع أن يقرر المجتمع الدولى أن إسرائيل قامت وتقوم بجرائم حرب، وستترتب على هذا القرار نتائج مهمة.

إسرائيل تتخذ من موقف الحكومة المصرية والإعلام المصرى غطاءً. هل ستستمر مصر فى إمداد إسرائيل بهذا الغطاء فتتحمل معها ما سوف يحدث إن عاجلا أو آجلا من إجراءات وعقوبات؟

•••

عودة إلى مقال مايو ٢٠١١

الرحلة سهلة، والطريق واسع. اسمه «طريق صلاح الدين»، ويمتد من القاهرة إلى القدس مرورا برفح وغزة. وأهل غزة يسمونه الطريق السريع. فلنستعمله، ولنجعل المعبر معبر بين أشقاء، تبسط عليه مصر سيادتها الفعلية العاقلة، فيكون هذا خير لنا، وخير للعالم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved