يوليو ويونيو فى تاريخ مصر

مصطفى كامل السيد
مصطفى كامل السيد

آخر تحديث: الأحد 24 يوليه 2016 - 9:35 م بتوقيت القاهرة

تثير الذكرى الرابعة والستون لثورة 23 يوليو تأملات عديدة حول أوجه الشبه والاختلاف بينها وثورة 30 يونيو 2013، وحول أسباب هذه الأوجه. هل تعود الاختلافات لاختيارات قادة الثورتين؟ أم أنها تكاد تكون توجهات ضرورية بحكم السياق الذى جرت فيه كل منهما؟ ويتفرع عن ذلك السؤال الأهم حول مساهمة كل منهما فى مشروع النهضة المصرية المتعثر، وإن كان من السابق لأوانه إصدار الحكم على ثورة يونيو بالنسبة لهذا السؤال، لأنها على عكس ثورة يوليو لم يمض من عمرها سوى ثلاث سنوات، وقد يرى كثيرون أن تلك فترة قصيرة لا تكفى لظهور هذه الآثار.

أوجه الشبه:

ولنبدأ بأوجه الشبه، وهى بكل تأكيد عديدة، فى مقدمتها بطبيعة الحال أن كلا منهما هو بالمعنى الفنى انقلاب عسكرى على نظام حكم مدنى كان يدّعى استرشاده بدستور يقتضى لتولى السلطة الفوز بالأغلبية فى انتخابات حرة ونزيهة. طبعا انقلب النظام الملكى على هذا المبدأ مرات عديدة كان آخرها إسقاط حكومة الوفد المنتخبة بعد حريق القاهرة فى 26 يناير 1952، وتعيين الملك أربع حكومات من أحزاب الأقلية حتى ليلة الثالث والعشرين من يوليه من نفس العام، كما أهدر محمد مرسى الرئيس المنتخب الضمانات الدستورية بالفصل بين السلطات بالإعلان الدستورى فى 22 نوفمبر 2013 الذى جعل منه رئيسا فوق الدستور، كما أن مدنية نظام الحكم كانت فى طريقها للتآكل بحكم بعض نصوص دستور 2012 وسعى الإخوان لتحقيق هدفهم الاستراتيجية بأسلمة الدولة والمجتمع، وهو ما لم يتمكنوا منه بحكم قصر المدة التى قضوها فى الحكم منفردين.

وثانى أوجه الشبه هو أن الخلفية العسكرية لقادة الثورتين صبغت رؤيتهم للحياة السياسية المدنية كما لو كانت، أو ينبغى أن تكون، صورة مطابقة للانضباط العسكرى الذى عرفوه فى صفوف القوات المسلحة. الرئيس جمال عبدالناصر عبَّر فى فلسفة الثورة عن دهشته للخلافات بين قادة الأحزاب، وكيف أن الأمة لم تسر بعد نجاح حركة الجيش صفوفا متراصة وراء طليعتها من العسكريين، والرئيس السيسى يذكّر دائما بضرورة تحقيق الاصطفاف الوطنى، ويؤكد على ضرورة الوحدة ونبذ الاختلاف الذى يعود بالضرورة إلى عمل ما يسميه بقوى الشر التى تبذر الشقاق بين المواطنين.

الحياة السياسية بحكم التعريف تعنى تعدد الرؤى والمصالح والتنظيمات، وحسم الخلافات بالتراضى والحلول الوسط، أو بالتعايش مع هذه الاختلافات باعتبارها طبيعة الحياة، ولكن قادة الثورتين لم يعترفوا بذلك، وضاقوا بالتعدد. قادة يوليو سعوا لتعبئة أنصارهم فى تنظيم واحد بدأ بهيئة التحرير وانتهى بالاتحاد الاشتراكى العربى مرورا بالاتحاد القومى، وقادة يونيو من الضباط همَّشوا الأحزاب السياسية، وهم جميعا لا يطيقون وجود أى قوى سياسية أو اجتماعية أو مهنية تتمتع بقدر من الاستقلال فى مواجهة سلطات الحكومة وتنظيماتها.

وثالث أوجه الشبه هو الموقف من حركة الإخوان المسلمين. بدأت ثورة يوليو بنوع من التوافق مع الإخوان المسلمين. ويذكر المؤرخون أن موعد التحرك ضد النظام الملكى قد تأخر أربعا وعشرين ساعة حتى يتسنى إخبار قيادة الإخوان بالموعد الذى تقرر فجأة خوفا من عزم الحكومة على إلقاء القبض على قادة جمعية الضباط الأحرار التى تنامى إلى علم الحكومة وجودها بالجيش ومطامحها الانقلابية. أما فى حالة ثورة يونيو وعلى الرغم من أنها كانت فى الأساس تحركا معاديا لوجود حكومة الإخوان المسلمين، إلا أن قائد ثورة يونيو كان عضوا بارزا بالمجلس الأعلى للقوات المسلحة الذى حكم مصر فى أعقاب الإطاحة بنظام حسنى مبارك بعد ثورة 25 يناير، وهو المجلس الذى رفع الحظر عن جماعة الإخوان المسلمين، وسمح لها بتأسيس حزب سياسى، بل وهو الذى سلمها السلطة بعد الانتخابات الرئاسية فى يونيو 2012.

أوجه الاختلاف:

هنا تتوقف أوجه الشبه الهامة بين الثورتين، ويتوقف الباحث مليا للتأمل فى أوجه الاختلاف بينهما، وهى كثيرة وجوهرية، منها ما يتعلق بالظهير الشعبى لكل منهما، وبطبيعة وحدود المشروع السياسى، ورؤية كل منهما للهوية الوطنية، ومضمون هذا المشروع داخليا وخارجيا.

افتقدت ثورة يوليو فى البداية الظهير الشعبى. كانت مجرد انقلاب عسكرى، صحيح أن من بدا للرأى العام أنه قائده، وهو اللواء محمد نجيب سرعان ما اكتسب شعبية بسبب مظهره الأبوى ونزاهته ودوره فى حرب فلسطين، ولكنها كانت شعبية معقودة لشخصه، ولذلك تبددت شعبية الانقلاب عندما دب الخلاف بينه وأغلبية أعضاء مجلس قيادة الثورة فى فبراير ــ مارس 1954، وخرجت المظاهرات العارمة ضد حكم العسكر بتأييد من كل القوى السياسية التى كانت نشطة قبل يوليو 1952 وفى مقدمتها حزب الوفد والإخوان المسلمين والشيوعيين. ولكن إنجازات نظام يوليو فيما بعد هى التى أكسبته شعبية هائلة لم يقدر ربما لأى نظام آخر فى تاريخ مصر الحديث أن يتمتع بمثلها، وظل يحظى بها حتى لحظة رحيل قائده عن الحياة وبعد هزيمة عسكرية مهينة فى سبتمبر1970.

أما نظام يونيه فقد بدأ بظهير شعبى تمثل فى قطاعات واسعة من المواطنين ضاقوا بحكم الإخوان من المثقفين المعادين لحكم دينى ومن رجال الأعمال والنساء والشباب أنصار ثورة 25 يناير ومن المسيحيين وأنصار نظام حسنى مبارك ومواطنين يصعب تصنيفهم تحت أى اتجاه ولكنهم ضاقوا بسعى الإخوان المسلمين لفرض هوية خاصة على المجتمع فضلا عن قطاعات مهمة داخل جهاز الدولة خصوصا بين الشرطة والقضاء.

وثانى أوجه الاختلاف أن انقلاب يوليه أصبح ثورة شعبية بفضل مشروعه السياسى الذى كان مشروعا شاملا للنهضة. صحيح أن معالمه لم تتضح تماما فى بدايته، ولكن طموحه الواسع أنبئت به مبادئ الثورة الست والتى تضمنت دعوة لتغيير أساسى فى أوضاع مصر الاجتماعية والاقتصادية والسياسية من القضاء على الاستعمار وأعوانه وسيطرة رأس المال على الحكم والقضاء على الإقطاع وإقامة حياة ديمقراطية سليمة وبناء جيش وطنى قوى، وهى مبادئ ترجمتها سياسات محددة فيما بعد. أما ثورة يونيه فقد كانت أهدافها محدودة بالتخلص من حكم الإخوان واستعادة مسار ثورة يناير وربما تحقيق مصالحة وطنية. ولكن لم يكن هناك حديث عن غير ذلك، وانتهى الأمر حتى الآن بالنجاح فقط فى إنهاء حكم الإخوان، ووضع قادة ثورة يناير فى السجون والتشكيك فى حكمة السعى لتحقيق المصالحة الوطنية.

وثالث أوجه الاختلاف هو تعريف الهوية الوطنية. خطاب ثورة يوليو يشدد على انتماء مصر العربى، وهو ليس مجرد هوية محايدة ولكنه هوية مناضلة تسعى للتخلص من السيطرة الأجنبية على مقومات الأمة العربية بمناهضة الاستعمار والصهيونية، وهو ليست هوية منغلقة، لأنه مفتوح على الفضاءين الإفريقى والإسلامى بحسب رؤية الدوائر الثلاث فى سياسة مصر الخارجية كما وردت فى كتاب فلسفة الثورة الذى طرح أفكار جمال عبدالناصر. أما خطاب يونيو فهو يؤكد فقط على الهوية القطرية، الرئيس عبدالفتاح السيسى يخاطب المواطنين قائلا يا مصريين، ويختم خطاباته أينما ذهب بالهتاف تحيا مصر، وهو عودة غير مقصودة غالبا لخطاب الهوية الذى كان سائدا قبل ثورة يوليو.

وتنسجم هذه الهوية المقاومة فى خطاب يوليو مع مشروعها النهضوى داخليا وخارجيا، فالمشروع النهضوى ترجمته سياسات تسعى لتحقيق العدالة الاجتماعية بل وإقامة مجتمع اشتراكى من خلال الإصلاح الزراعى وتأميم المشروعات الكبيرة والمتوسطة والحد من الثروات الكبيرة والمضى على طريق التصنيع وتولى القطاع العام المسئولية الأساسية فى التنمية من خلال التخطيط فضلا عن توفير الخدمات العامة مجانا وفى مقدمتها التعليم والصحة، وضمان العمالة الكاملة لخريجى المدارس الثانوية والجامعات وخطوات أخرى لرفع مستوى معيشة المواطنين.

ويشكو المراقبون لسياسات نظام يونيو من عدم تحديده حتى الآن لرؤيته الاقتصادية، ولكن لا شك أنه يسير على خطوات نظام حسنى مبارك الذى أطاحت به ثورة يناير من تعويل على القطاع الخاص والاستثمارات الأجنبية وسعى متردد لتصفية القطاع العام مع دور متزايد للقوات المسلحة فى تنفيذ المشروعات الاقتصادية.

أسباب الاختلاف:

ولكن ما هى أسباب الاختلاف بين الثورتين؟ هل هى مجرد اختلاف فى الاختيارات أم أن اختلاف الاختيارات فى حد ذاته له ما يفسره؟ يرى واحد من الفلاسفة أن البشر يصنعون تاريخهم ولكن فى ظل ظروف ليست من اختياراتهم. تطرح دراسات العلوم الاجتماعية ثلاث توجهات فى التفسير، تتعلق بظروف تنشئة قادة الثورتين، ومكانتهم فى القوات المسلحة وأصولهم الاجتماعية، وأخيرا السياق العالمى لكل من الثورتين.

جرت تنشئة ثوار يوليو فى ظل مناخ من الحرية النسبية فى العهد الملكى. كانت خدمتهم فى القوات المسلحة تترك لهم وقتا للاختلاط بالحياة المدنية وتواصلا مع القوى السياسية. ولذلك قيل أن مجلس قيادة الثورة كان صورة للمعارضة خارج البرلمان فى مصر فى العهد الملكى وإن غلب عليه الولاء للقوات المسلحة. كان فيه ضباط أصحاب هوى إخوانى، وآخرون ذوى هوى لمصر الفتاة وجماعة ثالثة ذات هوى شيوعى، وإن قل بينهم من كانوا ذوى هوى وفدى. وكان معظم أعضاء المجلس أصحاب معرفة وتواصل مع القوى السياسية النشطة فى مصر فى ذلك الوقت. ولذلك كان مشروعهم النهضوى هو ترجمة لتطلعات القوى السياسية المدنية الرئيسية فى مصر. أما ضباط يونيو فقد نشأوا فى مناخ فرض قيودا شديدة على ضباط الجيش فى تواصلهم مع القوى السياسية المدنية بل وشجع العزلة والانفصال عن المجتمع المدنى عموما.

ومن ناحية ثانية كان قادة يوليو من الشرائح الوسطى فى المجتمع، ومن أصحاب الرتب الوسطى والصغيرة فى القوات المسلحة. أما قادة يونيو فلا تتوافر بيانات عن أصولهم الاجتماعية باستثناء الرئيس السيسى، ولكنهم هم أصحاب الرتب الرفيعة فى القوات المسلحة لكونهم قادتها، ويرجح بعض المتخصصين فى الاجتماع السياسى للقوات المسلحة أن يميل العسكريون من الرتب الصغيرة عندما ينخرطون فى العمل السياسى إلى تغيير ثورى فى مجتمعاتهم، بينما يقتصر أصحاب الرتب المتوسطة على نهج إصلاحى، أما القيادات العسكرية، فهى أميل إلى إعادة إنتاج النظام السابق.

وأخيرا فالسياق العالمى له أثره. كانت الخمسينيات والستينيات هى فترة صعود حركات التحرر الوطنى وتحدى النظام الاشتراكى للدول الرأسمالية، ولذلك امتلكت الاشتراكى هوى وعقول الكثيرين من قادة دول الجنوب، وكان عبدالناصر معجبا بقادة دول شيوعية فى الصين ويوغوسلافيا والاتحاد السوفيتى، ولكن السياق العالمى لثورة يونيو هو اختفاء النظام الإشتراكى تقريبا من على ظهر الأرض، وبقاء الرأسمالية بكل أزماتها اختيارا وحيدا على مستوى العالم.

فهل كان يمكن لقادة يونيو أن يكون لهم خيار آخر؟ ما هو رأيكم أعزائى القراء؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved