يوليو من جديد: المشروع والنظام

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 24 يوليه 2016 - 9:40 م بتوقيت القاهرة

لا يقدر أحد أن يصادر حقائق التاريخ وفق انفعالات عابرة أو تصفية حسابات مستعصية.

المراجعة غير الإنكار، والنقد غير التدليس.

على الرغم من مرور أكثر من قرنين على الثورة الفرنسية فإن السجال الحاد حول وقائعها وتحولاتها وأبطالها لم يمنع الإقرار العام بدورها الجوهرى فى تغيير مسار التاريخ الإنسانى.

يعزى للثورة الفرنسية أنها أطلقت الأفكار الأساسية فى الحقوق والحريات العامة إلى آفاق لم تكن متخيلة بمعايير القرون الوسطى، والعالم بعدها اختلف بصورة جذرية عما كان قبلها.

فى الحصاد الأخير بقيت قيمها الكبرى تؤثر وتلهم حكم الشعوب، وتوارت صفحاتها الدموية وقصص المقاصل التى أطاحت بالرءوس والردات التى أعقبتها.

بالقدر ذاته لعبت الثورة الروسية أدوارا لا يمكن التهوين منها فى إلهام فكرة بناء عالم جديد أكثر عدلا.

على الرغم من أى مثالب قاتلة فى بنية نظامها يعزى لتلك الثورة أنها نقلت الوعى الإنسانى بقضية العدل الاجتماعى إلى مستويات غير مسبوقة.

لا يمكن النظر إلى الحقوق الاجتماعية الأساسية التى استقرت فى المواثيق الدولية، ولا للتطورات الجوهرية التى لحقت بمفاهيم الرعاية الاجتماعية داخل النظم الرأسمالية الغربية دون الإقرار بتأثيراتها.

على منوال مماثل لعبت الثورة الصينية أكثر الأدوار أهمية فى الشرق الآسيوى، حيث الكتل البشرية الهائلة التى ترزح تحت فقر مدقع وحروب بلا نهاية مع الأفيون والذباب.

باستثناء لافت نجح الصينيون فى الانتقال من الثورة إلى الدولة، ومن التخطيط المركزى الصارم إلى الانفتاح الاقتصادى المحسوب، بأقل كلفة سياسية ممكنة، وأسسوا واحدة من أكثر التجارب استقرارا بزخم التراكم.

بكل التجارب لم تكن هناك ثورة مثالية ولا خالدة.

الأخطاء الفادحة من طبيعة التحولات العاصفة.

الثورات بنات عصورها، وأسوأ قراءة ممكنة لأى ثورة نزعها من سياقها التاريخى أو إضفاء «قداسة» على أحداثها، فكل حدث قابل للمراجعة وكل سياسة قابلة للنقد.

الأمر نفسه ينسحب على ثورة يوليو التى لا يتوقف السؤال حولها من حقبة سياسية إلى أخرى.

حدة السجال الممتد شهادة ليوليو بقوة النفوذ على الرغم من انقضاء الأزمان والرجال.

بأى تصنيف موضوعى فإنها بحجم تأثيرها واحدة من أهم الثورات فى التاريخ الحديث.

تقبلها أو ترفضها، ليست هذه هى القضية.

القضية بالضبط أن أحدا، بغض النظر عن موقفه منها، لا يمكنه التقليل من أدوارها فى عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.

بيقين فإنها الثورة الأهم فى العالم الثالث بالنظر إلى الأدوار الجوهرية التى لعبتها فى العالم العربى، حيث كانت مركز أحداثه وتفاعلاته فى مواجهة القوى الغربية الكبرى.

لا يمكن كتابة التاريخ العربى الحديث دون أن تكون يوليو فى قلبه بقوة إلهام مشروعها للوحدة العربية والتحرر الوطنى ومقاومة سياسة الأحلاف العسكرية وملء الفراغ التى تبنتها الولايات المتحدة بعد الهزيمة السياسية المدوية للإمبراطوريتين السابقتين البريطانية والفرنسية فى حرب السويس.

رغم أى إخفاقات حدثت تظل للمعانى الكبرى تأثيراتها الملهمة، فلا إلغاء الهوية العربية متاح أيا كانت فداحة مستويات التراجع، ولا إلغاء الذاكرة ممكن على الرغم من الهزائم القاسية.

كما اكتسب مشروع يوليو إلهاما لا ينكر بانفتاحه على قارته الإفريقية وقيادته بلا منازع لأكبر عملية تحرير فى التاريخ مطلع الستينيات من القرن الماضى، وكانت تلك واحدة من أكبر التراجيديات التاريخية لشعوب رزحت طويلا تحت الاستعباد والعنصرية.

فى منتصف السبعينيات وجد الروائى الكبير «بهاء طاهر» صورة لـ«جمال عبدالناصر» معلقة داخل محل صغير بمنطقة نائية فى كينيا.

خطر له أن يسأل صاحبه: «من ذلك الرجل؟».

أجابه بدهشة: «ألا تعرفه.. إنه أبو أفريقيا».

بتعبير آخر للزعيم الجنوب إفريقى «نيلسون مانديلا» فإنه «زعيم زعماء القارة».

الحقائق لا يمكن نفيها والعبث بالتاريخ جريمة فى حق الذاكرة العامة.

نحن أمام مشروع يدرك حقائق وتحديات عصره، أفكاره متسقة ومعاركه مفتوحة وطموحاته ممتدة لتأسيس نظام دولى جديد بحركة عدم الانحياز التى أسسها مع الهند ويوغوسلافيا حتى يتاح للدول المستقلة حديثا أن تصون قرارها وتمسك بمقاديرها.

يعزى لثورة يوليو أكثر من غيرها إلهام فكرة الاستقلال وحق تقرير المصير للشعوب المغلوبة على أمرها، وتجربتها الاجتماعية الأهم فى التاريخ المصرى كله.

بكلام آخر قوة يوليو فى مشروعها الذى غيّر خريطة مجتمعها وتجاوز حدودها إلى عالمها.

بتلخيص ما فإن «يوليو الحقيقة السياسية الرئيسية بالتاريخ المصرى المعاصر». بتعبير الأستاذ «محمد حسنين هيكل».

بقوة الأثر التاريخى فإنها ما زالت حاضرة فى السجال العام.

ما هو تحررى بنى صورتها.

وما هو اجتماعى أكد شرعيتها.

كانت التراجيديا الكبرى فى قصة صعود وغروب يوليو أن نظامها خذل مشروعها.

لسنوات طويلة كان السؤال الرئيسى: «ماذا تبقى من ثورة يوليو؟».

السؤال بذاته يعنى أن نظامها انتهى وتوجهاتها جرى الانقضاض عليها.

مع بداية الانفتاح الاقتصادى عام (١٩٧٤) تردد فى السجال العام سؤال العدالة الاجتماعية وطبيعة الانقلابات الجارية فى البنية الطبقية للمجتمع التى نظر إليها على نطاق واسع بأنها قطيعة عند الجذور مع شرعية يوليو.

وقد كانت انتفاضة الخبز فى يناير (١٩٧٧) ذروة الصدام الاجتماعى، فالسياسات تناقضت وتناحرت قبل أن تفترق الطرق إلى الأبد بتوقيع اتفاقيتى «كامب ديفيد» عام (١٩٧٨).

فى «يناير» كما فى «يونيو» عاد الكلام مجددا عن «يوليو» من منظور جديد.

هناك من حاول أن يصور يناير كأنها ثورة على الستين سنة التى تلت يوليو بزعم ــ لا يمكن إثباته ــ أنها حقبة سياسية متصلة، شرعية واحدة ونظام واحد.

كان ذلك استخفافا بحقائق التاريخ وهزلا فى مقام الجد.

لقد شرخت شرعية نظام يوليو بهزيمة (١٩٦٧) غير أن الإرادة العامة للمصريين استدعت المقاومة بثقة فى «عبدالناصر» ومشروعه وقدرته على إعادة بناء الجيش من تحت الصفر وتصحيح الأخطاء الفادحة فى بنية نظامه التى أفضت إلى الهزيمة المروعة.

بتعبيرات «عبدالناصر» فقد كانت هناك «دولة داخل الدولة» و«مراكز قوى» تمركزت فى بنية السلطة.

حقق فى انحرافات جهاز المخابرات وبحث فى الأسباب العسكرية والسياسية للهزيمة ودعا بمحاضر رسمية إلى «المجتمع المفتوح» و«التعددية السياسية»، غير أن المراجعات لم تستكمل.

مع الانقلاب على السياسات تصور «أنور السادات» أن بوسعه استخدام أدوات الدولة لإطاحة ما أنجزه سلفه بالأدوات نفسها.

القصة كلها تحتاج إلى مراجعة دون تعسف مع السياق التاريخى الذى جرت فيه.

من شروط أى حوار جدى تحتاجه مصر احترام التاريخ وحقائقه الأساسية، فالإنكار لا يسمح للمستقبل أن يصحح عن وعى ويتحرك بثقة لبناء دولة حديثة ديمقراطية وعادلة وتمتلك قرارها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved