معارك ملكية وهمية

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 24 أغسطس 2019 - 7:40 م بتوقيت القاهرة

"حياتي تتوقف على موت البقية، فانظر ما يمكنني أن أفعل..."، هذا هو مبدأ لعبة البقاء الأكثر انتشارا حول العالم: بابجي موبايل، التي تنتمي لسلسلة ألعاب "المعركة الملكية" الإلكترونية، وقد وصل عدد مستخدميها حول العالم فور تنزيلها على الهواتف المحمولة في مارس 2018 إلى حوالي 400 مليون، كما وصلت أرباحها خلال شهر مايو الماضي فقط إلى 146 مليون دولار، وفقا لجريدة الفايننشال تايمز البريطانية.
الفكرة بسيطة استلهمت من فيلم ياباني للمخرج كينجي فوكاسكو، بعنوان "المعركة الملكية" (royal battle)، عرض في دور السينما بنجاح سنة 2000، وهو مقتبس عن رواية بالاسم نفسه للكاتب كوشون تاكامي. اختارت الحكومة اليابانية، وفقا لأحداث الفيلم، أن تضع فصلا من طلاب السنة التاسعة على جزيرة نائية، لإجبارهم على قتل كل منهم للآخر، ليتبقى فائز واحد في النهاية. وهي الفكرة ذاتها التي اعتمدتها عدة ألعاب إلكترونية ناجحة ظهرت فيما بعد، ومنها بابجي (PUBG): يتم إلقاء 100 لاعب من الطائرة في جزيرة معزولة، تعد ساحة المعركة، وتبدأ لعبة الإثارة، ويكون البقاء فيها للأقوى والأمهر والأذكى.
ظهرت في البداية لعبة Arma2، التي تم تطويرها على يد مصور ومصمم الجرافيك الأيرلندي بريندان جريني، الذي شارك في اللعبة بعض مرة تحت اسم "مجهول" ليتغلب على أزمته العاطفية التي انتهت بالطلاق. وخلال اللعب شعر بالملل وجاءته فكرة تطوير اللعبة حتى تصبح أكثر واقعية، خاصة فيما يتعلق بمصيرية القرارات وعدم إمكانية الرجوع فيها أو الرجوع بالزمن لتغييرها. بالفعل أراد أن تكون لعبته المفضلة كما يريد وأن تحاكي الواقع، فكانت "بابجي"، حيث كل لاعب مسؤول عن قراراته ويدفع ثمنها مهما كلفه الأمر. انضم بريندان جريني رسميا لشركة بلوهول الكورية سنة 2015، وعكف على تطوير اللعبة لمدة سنتين حتى تم تدشينها على الحواسب الشخصية وأجهزة الأكس بوكس ون، ثم طرحت بعدها بعام على الهواتف المحمولة، فلاقت نجاحا كبيرا.
يمكن أن تبدأ لعبة بابجي بشكل فردي أو زوجي أو في فريق من أربعة لاعبين، ويكون القتل عبر الأسلحة أو الدهس، وعندها يشعر اللاعب بالمتعة، خاصة أن الأجواء قريبة من الحقيقة ولا تشبه الرسوم المتحركة، كما في لعبة أخرى منافسة وهي Fortnite التي تنتمي هي الأخرى لفئة "المعارك الملكية"، والتي تقترب شخصياتها أكثر من أفلام الكارتون.
***
كان هذا الشرح واجبا للتعريف باللعبة التي لفتت نظري بسبب متعة القتل، وحب البقاء. العنف الذي يرفع الأدرينالين في الدم لدرجة إصابة أحد اللاعبين الشباب البالغ من العمر ستة عشر عاما، في نيبال، بأزمة قلبية مفاجئة، لأنه لعب بابجي على المحمول لمدة ست ساعات متصلة، وانهزم. انتهى الأمر بأن منعت الحكومة هناك تداول اللعبة خلال الربيع الماضي، وهو ما حدث أيضا في العراق، ومؤخرا في المملكة الأردنية الهاشمية. وحذرت هذه الحكومات من خطر إدمان اللعبة، التي تسببت في حوالي 40 ألف حالة طلاق حول العالم، من بينها 20 في العراق. وتساءلت هل يحتاج أهل العراق للمزيد من العنف؟ أم أن هذه اللعبة تسمح لهم بالتنفيس عن رغبات مدفونة لدى من لم يشارك فعليا في القتال ويحتاج إلى تفريغ شحنة العنف التي لا تجد لها سبيلا في الواقع؟ اللافت هو أن اللاعبين الذين يشاركون في بابجي وهم من جنسيات مختلفة، يتحدثون إلى بعضهم البعض على الهواء، يتواصلون بلهجاتهم المختلفة وتظل لدى كل واحد منهم ميوله السياسية وانتماءاته. تنعكس مثلا مشكلة الهند وباكستان على اللاعبين، فتظهر الحساسيات والتحالفات خلال عمليات القتال الوهمية، كذلك يلعب اللبناني مع الإسرائيلي، فلا يستطيع أن يأمن جانبه حتى لو حاول التودد له، إلى ما غير ذلك.
يغدر أحدهم بالآخر أحيانا لمجرد الأخذ بالثأر افتراضيا. ضحك وجد. واقع هزلي. والأهم كما يقول مخترع اللعبة هي فكرة الحرية، حرية اختيار سبيلهم للبقاء "يمكن لأحدهم أن يقرر أن يجري بملابسه الداخلية وعلى رأسه مقلاه، نعم يستطيع ذلك"، طالما لا يغش ويلتزم بقوانين اللعبة الصارمة. اللاعبون يبدأون من الصفر، وينجحون في اقتناص الحياة، وبعضهم يربح بفضل الاستراتيجيات التي اتبعها. وهناك دائما متعة تتعلق بفكرة الشخص الذي يبقى ويصمد للنهاية، حتى لو صار وحيدا. قتل الآخرين جميعا، وظل واقفا. فكرة بالطبع لها وجاهتها النفسية، وإلا ما كانت أغرت الملايين. تنميها الشركات القائمة على هذه الألعاب والتي سارعت إلى تنظيم كأس الأمم لبابجي في سيول من 9 إلى 11 أغسطس الماضي، بمشاركة أهم اللاعبين من جميع أنحاء العالم للفوز بجائزة قدرها خمسمائة ألف دولار.
***
جاء من فيتنام وحدها 26 لاعبا، تليها ألمانيا التي كانت ممثلة بعشرة لاعبين. وهنا يعلق مخترع اللعبة مجددا على انتشار اللعبة في آسيا بشكل كبير، فتتدخل مرة أخرى خصائص وطبائع الشعوب، فالآسيويون عموما يهتمون بالأداء أو بفكرة الإنجاز وهو غالبا ما يشدهم للعبة، والصينيون بصفة خاصة لديهم ثقافة ألعاب الفيديو القتالية التي تعتمد على فن الرماية. وقد طالبت الحكومة الصينية بأن تكون لها نسخة محلية من لعبة بابجي تتماشى أكثر مع طبيعة المجتمع، كما تفعل بالنسبة للأمور التكنولوجية الأخرى.
اللعبة ليست عن جندي خارق يطير في الهواء ويمشي على الماء ويعود إلى الأرض، لكن عن غريزة البقاء، أي أن شركات الألعاب تلك كانت من الذكاء أن راهنت على حب الإنسان للحياة واستثمرت الفطرة التي خلق عليها. ونجحت. وستكون هناك دوما ألعاب أخرى. وفكرة أن نراقب اللعبة لنرى سلوك الإنسان واستراتيجياته المبتكرة للحفاظ على الحياة مثيرة للاهتمام، خاصة مع اشتراك جنسيات مختلفة في اللعبة نفسها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved