الخلافة العثمانية: إمبراطورية الشرق

أحمد عبدربه
أحمد عبدربه

آخر تحديث: السبت 24 أغسطس 2019 - 7:35 م بتوقيت القاهرة

رغم أن الدولة العثمانية كانت قائمة بالفعل منذ القرن الثالث عشر، إلا أنها لم تصبح خلافة إسلامية رسميا إلا فى عام ١٥١٦ حينما قرر السلطان سليم الأول الحرب على الدولة المملوكية فى مصر وسوريا لينقل الخلافة رسميا إلى إسطنبول. حينما علم السطان قنصوه فى مصر عن بلوغ الحملة العثمانية للشام فإنه بعث إلى الشاه فى بلاد الفرس يطلب منه عقد اتفاقية لهزيمة العثمانيين لكن تردد الشاه خوفا من مواجهة جديدة مع العثمانيين وبقى المماليك يحاربون العثمانيين وحدهم.
زحف جيش كبير جرار من الجنود المملوكيين بقيادة الخليفة المتوكل والسلطان قنصوه إلى الشام والتقى الجيش العثمانى فى مرج دابق بالقرب من حلب، ورغم أن جيش المماليك تكون من ٨٠ ألف جندى إلا أن امتلاك العثمانيون لـ ٣٠٠ مدفع حسم الأمر فى أقل من ٨ ساعات! انتصر العثمانيون وقتل قنصوه وتم أسر الخليفة المتوكل لتبدأ رسميا صفحة جديدة فى تاريخ المسلمين يسيطر فيها آل عثمان على الخلافة الإسلامية لأكثر من أربعة قرون حتى انتهت الخلافة إلى الأبد بعد الحرب العالمية الثانية!
عامل السلطان سليم عائلة قنصوه باحترام، كما عامل الخليفة المتوكل بما يليق به باعتباره آخر خلفاء العباسيين. جرت مراسم كبيرة لتسليم الخلافة رسميا من المتوكل إلى سليم جرت بحسب بعض المصادر فى آيا صوفيا، وبحسب مصادر أخرى فى حلب، وفى كل الأحوال لم يسمح للمتوكل بالعودة إلى القاهرة إلا فى عام ١٥٢١ بعد تأكد السيطرة التامة للعثمانيين على مصر والشام. انتهى حكم سلالة آل عباس بعد ما يقرب من ٨٠٠ عاما، كان المتوكل هو الخليفة الـ ٧٣ للمسلمين والخليفة الـ ٥٤ من العباسيين والـ ١٧ من العباسيين فى القاهرة، بارك الأزهر تعيين سليمان الخليفة الـ ٧٤ للمسلمين، ووعد الأخير بتوحيد المسلمين بعدما اتهم العباسيين بالفشل فى فعل ذلك.
***
مع مطلع عام ١٥١٧ قرر الخليفة سليم الأول دخول القاهرة فأرسل جيشا جرارا إلى مصر، هزم من تبقى من المماليك فى معركة الريدانية وقدرت الخسائر بـ ٢٥ ألف قتيل و٢٥ ألف أسير، فر طومان باى قائد مصر من بعد قنصوة إلى الصحراء الشرقية وبدأ حروب عصابات ضد العثمانيين إلا أنه تعرض للقبض والأسر وأمر سليمان بإعدام طومان باى على باب زويلة.
لم تكن هزيمة المماليك مفاجئة، فلمدة قرن كامل من الزمان لم تخض السلطنة المملوكية فى مصر وسوريا حربا كبرى، فى حين أن العثمانيين كانوا يخوضون الكثير من الحروب فى الوقت ذاته، ضد الأسبان والطليان واليونانيين والفرس...إلخ تطور السلاح العثمانى كثيرا بين القرنين الخامس عشر والسادس عشر، بينما لم يحدث التطور ذاته فى سلاح المماليك، كانت المدفعية أبرز الفروقات بين الجيشين سواء فى الريدانية أو قبلها فى مرج دابق، كما أن بعض المؤرخين مثل يلماز أوستونا يرى أن أحد أهم الفروق بين المماليك والعثمانيين فى ذلك الوقت هو انخراط العثمانيين فى حياة شعوبهم بينما انعزل المماليك عن الشعب وكان بعضهم لا يتحدث العربية أصلا وإن تحدثها فهو لا يجيدها تماما!
أرسلت البندقية سفيرا إلى سليم الأول بـ ٨٠٠٠ ليرة كانت تسدد سنويا إلى مصر، والآن سوف تسدد إلى العثمانيين فى اعتراف إقليمى وغربى صريح بسيادة الدولة العثمانية على مصر، وسريعا ما قام شريف مكة بإرسال ابنه بمفاتيح مكة إلى سليم والذى كان فى هذه الأثناء يتفقد الإسكندرية والقاهرة والدلتا للتأكد من استتباب الأمور لصالح دولته فى الإقليم المصرى.
***
فى العامين ١٥١٧ و ١٥١٨ كانت الخلافة العثمانية تهيمن على مصر وإريتريا واليمن وموانئ البحر الأحمر بالإضافة إلى ليبيا والجزائر بالإضافة إلى الموصل وكركوك وأربيل من الصفويين. توفى سليم فى عام ١٥٢٠ من المرض بعد أن ترك دولة عالمية تسيطر فى شرق وشمال إفريقيا وشرق أوروبا وجزر المتوسط والشام والعراق!
قبل وفاة السلطان سليم كان قد عين سلطانيين مملوكيين على مصر والشام (عدا حلب) وهما بالترتيب «خيرى باى باشا»، و«جانبرد غزالى باشا»، فيما يبدو أنه وثق فيهما ورأى فيهما فرصة لكسب ود السكان المحليين، لكن وبمجرد وفاته فإنهما اتفقا على التمرد على الدولة العثمانية وبالفعل حاول والى الشام جانبرد محاصرة حلب لكنه تلقى هزيمة قاسية وكان الثمن ببساطة رأسه!
فور تولى الخليفة العثمانى الثانى «سليمان القانونى» أو «سليمان العظيم» كما عرف فى الغرب، فإنه لم يضيع الكثير من الوقت وقرر مواصلة غزواته، فحاصر بلجراد حتى تمكن منها بصعوبة ليفتح طريقا للإمبراطورية العثمانية فى وسط أوروبا، ثم سيطر على جزيرة رودس والتى لطالما استخدمها الصليبيون فى استهداف سفن الخلافة فى شرق البحر المتوسط، وبعد سقوط رودس كان سقوط مالطة وفى كل قطعة يسيطر عليها العثمانيون كانوا يرسلون مهاجرين أتراكا للاستيطان بها حتى سقطت كل الحصون الصليبية شرق وشمال المتوسط وبحلول منتصف ثلاثينيات القرن السادس عشر كانت حدود الإمبراطورية العثمانية وصلت عند مشارف موسكو لتصبح واحدة من أعظم الإمبراطوريات فى العالم.
***
لم ينسَ سليمان القانونى أثناء ذلك التأكد من استقرار الأمور فى مصر حيث كان دوما يخشى انتفاضات محتملة من شعبها أو ممن تبقى من المماليك، فكان يرسل حملات للتفتيش وتخفيض الضرائب وتنظيم الاجتماعات مع أعيان القاهرة والدلتا وشيوخ الأزهر الشريف لمعرفة شكاويهم واقتراحاتهم، كما أنه أولى اهتماما خاصا بجامع عمرو بن العاص لما له من مكانة ورمزية فى نفوس المصريين.
كان التحدى الأكبر أمام سليمان القانونى هو الملك كارلوس الخامس الذى حاول تدريجيا توحيد غرب الإمبراطورية الرومانية وقد نجح فى هذا الصدد كثيرا ولم يبقَ خارج سلطته سوى هنرى الثامن ملك إنجلترا وفرانسوا ملك فرنسا. وقع الأخير فى أسر قوات كارلوس الخامس وتم سجنه فى مدريد فأرسلت فرنسا رسميا تطلب مساندة سلميان القانونى فوجد الأخير ذلك الطلب فرصة لدعم تدخله فى غرب أوروبا. كان التصرف الفرنسى طبيعيا لأن العرف الدبلوماسى الدولى فى ذلك الوقت كان يعطى الدولة الأوروبية التى تتعرض للخطر الحق فى طلب مساندة البابا أو الإمبراطور، ولما كانت قوات البابا محدودة وتسيطر فقط على وسط إيطاليا، وبما أن سليمان القانونى تم اعتباره هو إمبراطور شرق الإمبراطورية الرومانية فى مواجهة كارلوس إمبراطور الغرب، فقد كان الطلب الفرنسى طبيعيا.
أرغم فرنسوا على توقيع اتفاقية مجحفة فى مدريد وتم فك أسره مقابل ذلك، فرجع إلى فرنسا عازما على تعضيد تحالفه مع السلطان العثمانى وهو ما كان بالفعل! عامل آخر أفاد السلطان العثمانى كثيرا، ألا وهو ظهور حركة الإصلاح بقيادة مارتن لوثر، دعم القانونى الحركة اللوثرية لأنها ساعدته كثيرا فى تفتيت وحدة الكاثوليكية ومن ثم أحدثت المزيد من الضغط على كارلوس الخامس الذى استغل هذا التفتت لاجتياح المجر الكبرى (حاليا مناطق المجر وكرواتيا وسلوفانيا وأوكرانيا) ورغم طول المسافة فإن السلطان قاد الحملة بنفسه وهزم واحدا من أقوى جيوش أوروبا ودخل بلجراد بسهولة نسبية واحتفل بعيد الفطر هناك بعد أن سقط أكثر من ٢٥ ألف جندى مجرى فى الأسر، ثم واصل الطريق بعد ذلك إلى فيينا لتفكيك الجيش الألمانى. حاول كارلوس الخامس الصلح مع سليمان القانونى لكن الأخير رفض وزحف على ألمانيا ليواصل الضغوط على كارلوس حتى اضطر الألمان فى النهاية لتوقيع صلح مع الأتراك تم على إثره ترسيم الحدود الألمانية التركية على خطوط تماس الحدود المجرية النمساوية حاليا.

أستاذ مساعد العلاقات الدولية بجامعة دنفر

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved