طعم السكر

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 24 سبتمبر 2022 - 8:00 م بتوقيت القاهرة

دهنت خدودها بلون وردى فاقع كغزل البنات، وتجولت فى شوارع المدينة. صارت مثل عروسة مولد عجوز هاربة من على الرف، تعبت من كونها عالقة فى الزمان والمكان. لا هى بنت اليوم، ولا تشبه بنت امبارح. بات وجهها يذكرنا بقبح تماثيل الميادين الحالية أو ما تبقى من الميادين، دمية تقليدية من السكر لم ينجح صانعها فى أن ينمنم قسماتها كمثيلاتها فى العصر الفائت. لا تنطبق عليها الأمثال والتعبيرات الشعبية الدارجة التى ارتبطت بعروسة المولد مثل «القالب غالب.. والرك على القالب.. ولبس البوصة تبقى عروسة»، فهى تنتمى بالأحرى لعالم المسوخ. ولا يذكر الناس بالضرورة أصلها وفصلها، كما لا يذكرون ظروف نشأة عروسة المولد منذ أيام الفاطميين، وإن اختلفت الروايات حول القصة وراء ابتكارها. هى حتى لا تمتلك أسطورة شخصية مثل هذه الأخيرة، لا يمكنها مثلا أن تدعى أن لها طعم السكر وتذوب فى الفم، ولا أنها أدخلت يوما البهجة على القلوب، كما فعلت عرائس المولد من سالف العصر والأوان، منذ أن قام صانع الحلوى القديم بصبها فى قالب خشبى على هيئة زوجة الحاكم بأمر الله أو غيره من أولى الأمر، ليمشى متبخترا جنبها شاهرا سيفه أو ممتطيا حصانه، فتهلل له الرعية ونغنى نحن «حلاوة زمان.. عروسة، حصان».
فقط لونت العجوز وجهها بلون الحلاوة، كأنها تضع مكياجا، كذلك لونت شعرها بصبغة مائلة إلى الحمرة، وجلست وحيدة على طاولة المقهى تجتر ذكريات بطعم السكر المر أو بطعم المُرَبى أحيانا. من طفولتها، لم تحتفظ سوى بعشرات الأوعية الزجاجية الصغيرة التى كانت تضع فيها جدتها المُربيات وتقول لها إنها آخر العنقود سكر معقود. تلك هى آخر كلمات حلوة وصادقة سمعتها، قبل أن يحدث لها ما حدث.
• • •
استسلم الطفل للنوم. أنا أيضا كنت طفلا. كنت ملاكا من ملائكة الرب. أبتسم للعصافير خلال الأحلام، وأقوم بإيماءات تلقائية بوجهى وفمى تشير إلى استحسانى لطعم السكر حتى قبل أن أتعلم الكلام، وأنا فى أشهرى الأولى بهذه الحياة. لم أكن طوال عمرى بهذا الحجم ولا بهذه الضخامة، لكننى أدمنت بمرور الوقت طعم السكر الذى اكتشفته وأنا فى بطن أمى، فالجنين يميز حلاوة السكريات قبل أن يولد أما سائر المذاقات والنكهات الأخرى فيكتسبها ويميل إليها بحسب الثقافة والمحيط، هذه حقيقة مؤكدة. مع التقادم فى الدنيا، ازداد ولعى بالحلويات. صرت أبحث عن طعم السكر فى كل المأكولات وأتناولها بنهم، إلى أن وصلت لوزنى الحالى وتجاوز مؤشر الميزان كل الحدود المسموح بها. أخبرنى الطبيب مرارا وتكرارا أن ما أفعله فيه خطورة على صحتى وأنه من الأفضل أن أجرى عملية تكميم معدة، فقد يساعدنى ذلك فى تخطى بعض عقبات الحرمان.
وددت لو كنت وُلدت مثلا فى اليابان، حيث لا يميل الناس بالضرورة لطعم السكريات، فهم من أقل الشعوب تناولا للحلوى، وإن كان الوضع قد تغير قليلا فى الآونة الأخيرة مع انتشار المحلات هناك التى تحمل أسماء فرنسية وتغريهم بمخبوزاتها الشهية، كما أصبح تناولها دليلا على رغد العيش. تمنيت أيضا لو جئت إلى الدنيا قبل أن يكتشف العالم السكريات المضافة ومصانع السكر.. كل هذه الأشياء لم تنتشر بشكل واسع إلا فى القرن التاسع عشر، مع تزايد استخراج السكر من البنجر، خاصة فى الغرب، إذ كان يعتبر فى أوروبا حتى القرن الثامن عشر ضمن السلع الكمالية أو مادة للاستخدامات الطبية.
الهنود هم أول من عرفوا استخراج السكر من القصب وتكريره، ثم أخذ عنهم العرب وطوروا التقنيات وبرعوا فيها، وبفضلهم انتقلت عبر المتوسط، ثم صدر البرتغاليون والإسبان ثقافة قصب السكر إلى أمريكا الجنوبية. إذا تاريخيا نحن شعوب تحب السكر، فما ذنبى أنا؟
• • •
سيأتى جيل كامل لا يعرف بالضرورة متعة مص القصب ولا عادة شرب عصيره فى أكواب كبيرة مثلجة. لن يحِنّوا إليه كما نحِنُّ لأشيائنا القديمة، فهو ليس جزءا من طفولتهم وصباهم. ولم تعد عربات «الكارو» التى يجرها الحمار تقف على جانب الطريق محملة بأعواد القصب الطويلة إلا فيما ندر، بل اختفت تقريبا. صارت قطع القصب الصغيرة المقشرة تباع إذ لزم الأمر فى السوبر ماركت داخل علب بلاستيكية، مثل الأطعمة الاستوائية الغريبة.
تاريخ زراعة القصب فى مصر يرجع إلى عهد الدولة الأموية، فى خلافة الوليد بن عبدالملك وولاية قرة بن شريك، إذ جلب القصب من بلاد الهند إلى عدد من مدن الصعيد. ومن وقتها ونحن نزرع القصب هناك، وقامت عليه صناعة بدائية منذ عام 710 ميلادية، ثم تطورت الأمور فى عهد محمد على حين قرر إنشاء معمل لتصنيع سكر القصب فى إحدى قرى محافظة المنيا حيث كان يمتلك مساحات شاسعة مزروعة بالقصب، وتوسع نجله إبراهيم فى جلب الأنواع المختلفة. ومن بعدهما بسنوات شيد الخديوى إسماعيل خلال القرن التاسع عشر نحو 18 مصنعا للسكر من بنى سويف إلى قنا جنوبا، إلى جانب المصانع الأهلية الصغيرة، وكان من بينها مصانع أبو قرقاص ونجع حمادى وأرمنت، إذ انتبه إلى ضرورة عدم اعتماد البلاد على محصول اقتصادى واحد وهو القطن الذى هبطت أسعاره بعد نهاية الحرب الأهلية الأمريكية.
مازالت فترة الحصاد هى موسم الخيرات فى الصعيد، رغم سمعته كمحصول مجهد للتربة يمتص عناصر غذائية كثيرة، إضافة إلى التحذيرات الخاصة باستهلاكه للمياه بشراهة والميل إلى تقليل زراعته واستبداله ببنجر السكر لسد العجز. عند سماع التصريحات الرسمية حول قصب السكر نشعر بمخاطر تهديد حصة مصر من مياه النيل بسبب أزمة سد النهضة خاصة خلال سنوات الجفاف، ويلوح تراجع المياه فى الأفق فيتصاعد الخوف وتزداد حاجتنا لتناول السكر، فكلما يتصاعد التوتر نجرى لأكل الحلوى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved