«البحر» وجمالياته فى ملتقى الراوى بالشارقة

إيهاب الملاح
إيهاب الملاح

آخر تحديث: السبت 24 سبتمبر 2022 - 7:50 م بتوقيت القاهرة

ــ 1 ــ
«من رحم المعاناة والألم يولد فن أصيل وخالد»؛ هكذا تواضع النقاد ودارسو الفنون والآداب، ولم يواجه الإنسان ظاهرة طبيعية استوقفته وحيرته وشغلت تفكيره مثل «البحر» هذا الحنون السكون، الهادر الجبار، وافر الرزق والعطاء، وشحيح البذل والمنح بغير سبب، هذا الذى شغل مساحاتٍ هائلة من المخيال الشعبى فى كل ثقافات وأمم وحضارات العالم أجمع.
على مدار ثلاثة أيام فى إمارة الشارقة بدولة الإمارات العربية الشقيقة (21ــ23 سبتمبر)، فى الكرنفال التراثى السنوى، اجتمع ما يزيد على مائة باحث ومتخصص وخبير فى التراث الثقافى، والمأثورات الثقافية، والعلوم الإنسانية والبينية، للحديث والنقاش وتبادل المعرفة والخبرات حول «البحر» وعوالمه المدهشة الساحرة المثيرة، عن قصصه وحكاياته، عن مأثوراته ومفرداته التى تغلغلت فى جوانب الثقافة العربية منذ القدم، وحتى وقتنا هذا، وتجسدت فى نصوص ومأثورات مدونة وشفاهية على السواء.
دورة مميزة؛ بموضوعها وفعالياتها وضيوفها من الباحثين والخبراء والفنانين والمؤدين والرواة، من دورات ملتقى الشارقة الدولى للراوى (فى نسخته الثانية والعشرين) والذى ينظمه ويشرف عليه معهد الشارقة الدولى للتراث، برئاسة الدكتور عبدالعزيز المسلم، يعاونه فريق عمل من أكفأ وأنشط فرق العمل فى الإدارة الثقافية على مستوى العالم العربى كله.
وكان لى شرف المشاركة والمساهمة ببحثٍ حول «سرديات البحر فى التراث العربى ـ قراءة استكشافية»، بحضور ومشاركة أعلامٍ كبار من جميع أنحاء العالم العربى، وعلى رأسهم أستاذ السرديات والأكاديمى المغربى القدير الدكتور سعيد يقطين، والأستاذة الدكتورة نجيمة طايطاى خبيرة التراث الثقافى اللا مادى، ومؤسِّسة مبادرة «مغرب الحكايات» ووزيرة الثقافة المغربية السابقة، ومن مصر الباحث الفولكلورى المعروف والخبير بالتراث الثقافى اللا مادى الدكتور مصطفى جاد عميد المعهد العالى للفنون الشعبية بأكاديمية الفنون.
ــ 2 ــ
عبر ما يقرب من ثلاث عشرة جلسة علمية رصينة، زخرت بأوراق بحثية رائعة قدمها باحثون من جميع أنحاء العالم غطت موضوع «البحر» من كل جوانبه التراثية، الفولكلورية، الأنثروبولوجية، كل ما يتعلق بالبحر ومكوناته ومفرداته وعالمه من الأحياء والمتخيلات والطقوس والمعتقدات والأساطير... إلخ.
من مصر والعراق وسوريا، ومن دول الخليج العربى، ومن دول الجوار المغاربى، ليبيا وتونس والجزائر والمغرب، وصولا إلى موريتانيا، ومن السودان واليمن، ومن أوروبا شرقها وغربها وأوسطها وجنوبها، ومن آسيا وأمريكا اللاتينية.. البشرية كلها بثقافاتها المتنوعة وأجناسها ولغاتها وحضاراتها وخصوصياتها كانت كلها ممثلة فى فضاءات ملتقى الراوى الدولى بالشارقة.
كانت أياما مليئة بالسحر والدهشة والخيال المذهل، حكايات وقصص من جميع أنحاء العالم، أساطير ومرويات تصل بين أقصى المشرق وأقصى المغرب، من حد الشمال إلى تخوم الجنوب، ومن عمق الحضارات القديمة المصرية والعراقية واليونانية والرومانية، وحتى مبادرات إنقاذ المدن الساحلية المهددة بالغرق (أو الإغراق) بفعل الآثار السلبية للتغيرات المناخية.. كل ذلك وغيره استمعنا واستمتعنا بعروضه وملخصاته الثرية التى أضاءت وأنارت مناطق كثيرة حول هذا الموضوع «الثقافى/ التراثى/ الفولكلورى» بامتياز.

ــ 3 ــ
ولم يقتصر الملتقى على الجلسات العلمية والبحثية الرصينة التى شارك فيها ما يزيد على مائة باحث ومتخصص أتوا من جميع أنحاء العالم، بل وبالتزامن مع هذه الجلسات، كان هناك عروض الحكى والأداء و«خيال الظل» والمحاكاة التمثيلية لنماذج حية من إرث البحر الزاخر، من تراث ومرويات مدونة وشفاهية، حكايات وأساطير وقصص، من أول حكايات الحوريات وجنيات البحر «بين الحقيقة والخيال» فى جميع الثقافات الإنسانية، والأساطير والخرافات التى تدور حول «عروس البحر»، وتجلياتها فى الفنون والأدب المعاصر، والسينما العالمية، والدراما والروايات الشهيرة، وكذلك الأفلام المتحركة، وحتى حكايات «ألف ليلة وليلة» بما تضمنته من قصص بحرى مثل حكاية السندباد البحرى وأسفاره السبعة، وحكاية عبدالله البرى وعبدالله البحرى.
ومرورًا بمحاكاة طقوس الصيادين ورحلات الصيد وطلب الرزق، والأغانى المصاحبة والمعبرة عن الخصوصية الثقافية لكل إقليم ومنطقة ساحلية تطل على البحر (من الخليج العربى ومرورا بسواحل حوض البحر الأبيض المتوسط، والبحر الأحمر، وحتى أقصى المغرب العربى بسواحله الطويلة المطلة على المحيط الأطلنطى) ووصولا إلى المرويات الشفاهية المتعلقة بالبحر يؤديها رواة أحياء (الكنوز البشرية) فى واحدٍ من أكبر تجمعات العروض الشفاهية (إن لم يكن أكبرها الآن) فى العالم كله.
وعلى هامش الملتقى، وكتقليد علمى أصيل ترسخ فى دوراته السابقة، صدر ما يقرب من خمسين كتابًا متخصصًا فى الدائرة المعرفية والفنية والثقافية والفولكلورية المتعلقة بالبحر، كتبها أهم وأبرز الباحثين المتخصصين فى هذا المجال، وللأمانة فإن هذه المجموعة الزاخرة من الإصدارات تثرى المكتبة العربية التى ظلت طويلا مفتقرة إلى مثل هذه الدراسات المتعددة بمداخل منهجية متباينة ومقاربات ومعالجات متنوعة تضىء هذه الظاهرة بصورة لم تحدث من قبل بمثل هذه الكثافة وهذا التنوع فى الثقافة العربية.

ــ 4 ــ
إن أجمل ما فى ملتقى الراوى الدولى الذى صار احتفالا عالميا سنويا، هذه الروح الإنسانية الصافية التى تغمر الجميع، فلا يهم من أنت أو من أين أو ما جنسيتك أو لغتك.. المهم مدى تفاعلك الخصب وماذا ستقدم من إبداع وفكر ومشاركة فعالة كى تسعد الناس وتمتعهم، وتتواصل معهم بلغةٍ إنسانية واحدة يفهمها الجميع دون استثناء، هى لغة الفن والإبداع والابتسامة التى يتصافح بها الضيوف فى أرجاء ومساحات (الشارقة إكسبو) المخصصة لاستضافة فعاليات الملتقى، وبين قاعاته وساحاته الخارجية..
إن الشارقة لم تعد قبلة لكل محبى الثقافة وعشاق التراث والأصالة والمعاصرة، ومنصة إشعاع حضارى وثقافى عربيا وعالميا فقط، بل صارت وجهة إنسانية رحبة وواحة فن وأدب وصحبة وأصدقاء أحبهم ولا أنساهم.. فى رحابها المحبة نجتمع، وعلى أرضها الأصيلة نلتقى، وفى جنباتها يصدح الرواة والمؤدون والمغنون بمروياتهم ونصوصهم وأهازيجهم ويتشارك الباحثون والدارسون والمتخصصون خلاصات أبحاثهم وأفكارهم فى واحدة من أخصب تجارب تبادل الخبرات والمعارف الإنسانية.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved