تلميذ في محاضرة الأستاذ محمد فائق

محمد عبدالمنعم الشاذلي
محمد عبدالمنعم الشاذلي

آخر تحديث: الأحد 24 سبتمبر 2023 - 8:25 م بتوقيت القاهرة

فى مبادرة كريمة من المجلس المصرى للشئون الخارجية، استضاف المجلس الوزير محمد فائق يوم 9 سبتمبر الحالى فى مقره بالمعادى. يعد المجلس المصرى للشئون الخارجية محفلا على درجة من الحرفية والرقى ويضم نخبة من السفراء والأكاديميين والإعلاميين والشخصيات العامة كما يعمل دون ضجة فى هدوء تام تحت رئاسة وزير خارجية مصر الأسبق والدبلوماسى المرموق، محمد العرابى، ويتولى إدارته التنفيذية السفير الدكتور عزت سعد الدبلوماسى القدير والأكاديمى والمحافظ السابق.
هذا عن المحفل أما عن الضيف السيد محمد فائق فهو قامة كبيرة وتاريخ حافل رفع راية التحرر والاستقلال فى أفريقيا فى وقت كانت القارة كلها تقع تحت الاحتلال الأوروبى البريطانى والفرنسى والبرتغالى والبلجيكى إضافة إلى الحكم العنصرى الفاشى فى جنوب أفريقيا وناميبيا وروديسيا. مهمة أسطورية ملحمية هائلة لعل العديد من شباب اليوم الذين لم يعودوا يعاصرونها لا يقدرون حجمها وهم يرون اليوم الاتحاد الأفريقى يضم خمسا وخمسين دولة أفريقية مستقلة، ولا يتصورون حالة أفريقيا فى الخمسينيات عندما كانت لا تضم إلا أربع دول مستقلة ــ مصر وليبيا وإثيوبيا وليبيريا. الأخيرة ليبيريا صنيعة الولايات المتحدة بعد الحرب الأهلية الأمريكية فى محاولة لحل قضية الأمريكيين السود الذين تحرروا بعد انتصار الشمال فى الحرب بإرسالهم إلى ليبيريا، التى سموا عاصمتها مونروفيا على اسم الرئيس الأمريكى جيمس مونرو. وليبيا التى تضم قاعدة هويلس العسكرية التى كانت أكبر قاعدة عسكرية للولايات المتحدة خارج أراضيها، وحتى مصر بعد ثورة 23 يوليو 1952 فكانت هناك قوات إنجليزية لا تزال جاثمة على أرضها طبقا لمعاهدة عام 1936.
كان إيمان مصر ثورة يوليو أن الاستقلال من الاستعمار حق أصيل لدول أفريقيا وغيرها من الدول، وأن مصر لا يمكن أن تأمن على استقلالها إذا ظلت جزيرة محاطة ببحر من المستعمرات. كذلك، حدثنا الأستاذ محمد فائق عن تأسيس الرابطة الأفريقية فى لجة الظلمات والأعداء التى تحيط بمصر من كل الجوانب وتوازنات القوة تميل فى غير صالح مصر فى عام 1956 فى وقت انشغلت مصر بقضية تمويل السد العالى وتأميم قناة السويس وصد العدوان الثلاثى. وبعد شهور قليلة من الغارة الإسرائيلية الفاجرة على قطاع غزة، ومصر منشغلة بالتصدى لمشروع آيزنهاور وحلف بغداد وفرنسا تترصد مصر لدعمها ثورة الجزائر، كل هذه التحديات لم تثنِ مصر عن حمل مسئولية أفريقيا وأن تكون المشعل والمنارة التى تهديها إلى التحرر من الاستعمار.
• • •
تولى الأستاذ محمد فائق مسئولية الرابطة الأفريقية وصار مقرها فى شارع أحمد حشمت فى الزمالك بمثابة وزارة خارجية موازية تتبادل العلاقات مع حركات التحرير التى تناضل من أجل الاستقلال وإنهاء الاستعمار، قدمت من خلالها الدعم المالى والسلاح والتدريب وزودت منتسبى هذه الحركات بجوازات سفر. وفتحت 38 حركة تحرر مكاتب لها فى مقر الرابطة للاتصال بالعالم الخارجى وعرض قضاياها بعيدا عن الحصار الاستعمارى. واستقبلت الرابطة فى مقرها بالزمالك عددا من زعماء حركات التحرر فى أفريقيا الذين صاروا لاحقا رؤساء لبلادهم بعد التحرر منهم، أوجينجا أودينجا من كينيا، وكينيث كاوندا من زامبيا، وسام نوجوما من ناميبيا، وجوشوا نكومو من زيمبابوى، ونلسون مانديلا من جنوب أفريقيا. وكان للسيد محمد فائق دور كبير فى انتقال أسرة لومومبا من الكونغو وإحضارهم إلى أمان مصر، ودور فى توقيف المجرم تشومبى فى مصر والتحقيق فى جريمة اغتيال الشهيد كمال الدين صلاح فى الصومال، وأوصت الرابطة الأفريقية بإنشاء الإذاعات الموجهة إلى أفريقيا باللغات المحلية وكان أولها باللغة السواحلية التى قال عنها الزعيم الكينى جومو كينياتا إنها كانت الشرارة الأولى التى أطلقت ثورة «الماو ماو» ضد الاستعمار البريطانى.
أدت الرابطة الأفريقية دورا كبيرا ومحوريا فى تحرر أفريقيا من الاستعمار ورفعت راية مصر ومكانتها فى أفريقيا ليس لدى الحكومات وحدها والزعماء بل لدى الشعوب الأفريقية، التى كان يصل لها صوت مصر فى أبسط الأكواخ فى أدغال أفريقيا عبر الإذاعات الموجهة باللغات المحلية وعبر الشباب الأفريقى العائد إلى بلده بعد أن تلقى العلم فى جامعات ومعاهد مصر بمنح دراسية وفرتها الرابطة وجعلت كلمة مصر هى الأعلى والمسموعة فوق إملاءات القوى الكبرى والعظمى.
• • •
مات جمال عبدالناصر يوم 28 سبتمبر عام 1970، وبدأ صراع خفى بين الرئيس السادات وبين النخبة الناصرية التى كانت حول عبدالناصر، وفجأة انفجر الصراع مدويا بعنف فى شهر مايو 1971 بعد ثمانية شهور من وفاة عبدالناصر، بدأ الدوى باستقالات مقدمة من النخبة الناصرية.. على صبرى نائب رئيس الجمهورية، والفريق أول محمد فوزى وزير الحربية، ومحمد فائق وزير الإعلام، وشعراوى جمعة وزير الداخلية، وأحمد كامل رئيس المخابرات العامة، وسامى شرف وزير شئون رئاسة الجمهورية.. وغيرهم. وفى يوم 15 مايو ألقى القبض على أصحاب الاستقالات بتهمة إحداث فراغ سياسى بغرض القيام بانقلاب، وقدموا لمحكمة الثورة التى رأسها حافظ بدوى رئيس مجلس الشعب وعضوية حسن التهامى مستشار رئيس الجمهورية ومثل الادعاء مصطفى أبو زيد الذى ابتدع له لاحقا منصب المدعى العام الاشتراكى. ويلاحظ أن المحكمة التى ستحكم فى قضية سياسية ساد فيها أعضاء سياسيون وليس قضاة محايدين.
حكمت المحكمة بأحكام مغلظة، تراوحت بين الإعدام والأشغال الشاقة المؤبدة، وخففت أحكام الإعدام إلى الأشغال الشاقة المؤبدة. وكان نصيب فارسنا حُكم بالسجن عشر سنوات لعلها أسهمت أكثر من غيرها فى إظهار معدنه الصلب النبيل فقد رفض الإفراج عنه بعد خمس سنوات بشرط أن يكتب اعتذارا واسترحاما لرئيس الجمهورية، وقال قولته النبيلة إنه لن يشترى خمس سنوات من عمره مقابل أن يخسر نفسه واحترامه لذاته والأجمل أنه رغم ما عاناه وتعرض له، فإنه لا يكن أى مشاعر كراهية أو غل فى نفسه ويظل تعبيرا حيا للقول: «بلدى وإن جارت على عزيزة، وأهلى وإن ضنوا على كرام».
صاحب القبض على من قدموا للمحاكمة حملة دعائية واسعة تقدم للعهد الجديد، فوصف الحدث بأنه ثورة للتصحيح ووصف من أزيحوا بأنهم مراكز للقوة ثم صدرت مجلة مايو وأسندت رئاستها لأنيس منصور لتكون لسان حال للمرحلة الجديدة. وأصبح مايو مرادفا ليوليو فأنشأت فى الصحراء مدينة 15 مايو فضلا عن مسرحيات سياسية، مثل إحراق الشرائط التى تم ضبطها لمكالمات تستخدم فى ابتزاز أصحابها فى مهرجان إعلامى حضره الرئيس السادات بنفسه للإعلان عن حرمة اتصالات المواطنين. فهل تحقق ذلك وقد وصلنا اليوم إلى شخصيات إعلامية ورياضية تتبجح فى التلفزيون بامتلاكها تسجيلات لإرهاب المواطنين. ومسرحية هدم سجن مصر إذ وقف الرئيس السادات وبجانبه عبدالفتاح عنايت ــ الذى شارك فى قتل السردار الإنجليزى، السير لى ستاك فى عام 1924، وأمضى 25 سنة فى السجن ــ وفى يد كل منهم معول لهدم جدران السجن لإعلان انقضاء زمن الاعتقالات. وفى سبتمبر 1981 قام السادات بجملة اعتقالات، حيث وصل عدد المعتقلين إلى الآلاف، منهم رموز العمل السياسى والإعلامى والثقافى والاجتماعى شملت محمد حسنين هيكل، وفؤاد سراج الدين البالغ من العمر سبعين عاما، وعبدالعزيز الشوربجى نقيب المحامين السابق الذى تخطى الثمانين وكف بصره، وميلاد حنا، ومن النساء لطيفة الزيات وصافيناز كاظم. سبق ذلك حملة ممنهجة لتشويه العصر الناصرى بسلسلة من الأفلام مثل الكرنك والبرىء وإحنا بتوع الأتوبيس.
• • •
غرضى من كتابة هذه السطور ليس الانحياز لطرف أو تزكية طرف على آخر، ولكن للإشارة إلى أنه بعد مرور 52 عاما على الحدث آن الآوان لإتاحة الوثائق الرسمية للأشخاص الباحثين والمحققين والمؤرخين لاستجلاء الحقيقة ورد الاعتبار لفارس نبيل مثل السيد محمد فائق وما قدمه من خدمات وتضحيات لبلده عن طريق الرابطة الأفريقية، والتى للمفارقة الحزينة تحولت إلى منظمة غير حكومية باسم الجمعية الأفريقية تتبع وزارة الشئون الاجتماعية بعد أن كانت تتبع رئاسة الجمهورية ووزارة الخارجية.
إننا نواجه تحديا كبيرا فى أفريقيا اليوم بسبب تعنت إثيوبيا فى قضية سد النهضة والتفاف العديد من الدول الأفريقية حولها، فهل كان هذا يحدث لو ظل محمد فائق والرابطة الأفريقية يؤديان دورهما؟ ولعل الحال يصوره شطر بيت الشعر الذى صاغه أبو فراس الحمدانى منذ أكثر من ألف سنة: «... وفى الليلةِ الظَّلماءِ يُفْتَقَدُ البَدْرُ».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved