بل وثائق عدة

علاء عبد الفتاح
علاء عبد الفتاح

آخر تحديث: الجمعة 25 نوفمبر 2011 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

هل نحتاج لوثائق توافقية تحدد ملامح الدستور القادم واللجنة التأسيسية التى ستقوم على صياغته؟

 

من يجيب بنعم عليه أن يوضح بالتفصيل لماذا وكيف، فالأصل فى الأمور أنه ما دام سينوب عن الشعب قلة لصياغة وثائق تشريعية فيجب أن يتم اختيار هذه القلة بالانتخاب. والأصل فى الأمور أيضا أن الهيئة التى تشرع ــ خصوصا لو كانت تأسيسية تضع دستورا ــ لا يفرض عليها قواعد ولا آليات عمل من خارجها وإنما تضع هى قواعد بنفسها.

 

وبالفعل هذا هو ما يحدث فى تونس: انتخب الشعب جمعية تأسيسية، ولها مطلق الحرية فى تحديد كيف ستعمل.

 

يدعى البعض أن ضرورة الاتفاق على معايير تنبع من بطلان فكرة أن يقوم البرلمان باختيار اللجنة التأسيسية، ولكن الواقع يقول إن أغلب دساتير العالم كتبتها برلمانات أو لجان اختارتها برلمانات. وطبعا أغلب دساتير العالم يمكن لبرلمانات تعديلها. وبالمقابل أغلب الجمعيات التأسيسية المنتخبة قامت بدور السلطة التشريعية المؤقتة.

 

أى أن قيام البرلمان باختيار اللجنة التأسيسية ليس بالأمر الشاذ. أين المشكلة إذن؟

 

يقولون المشكلة هى فى خطر انفراد أغلبية بكتابة الدستور، فالدستور يجب أن يكون توافقيا. وهذا كلام فيه وجاهه.

 

ولكن من ينادى بالتوافق يطلق كلاما مرسلا، فالتوصل لتوافق بين قوى وكيانات سياسية يحتاج للإجابة عن ثلاثة أسئلة.

 

أولا: من القوى الممثلة فى عملية التوافق؟

 

هل للأحزاب المنبثقة عن الحزب الوطنى المنحل مكان فى هذا التوافق؟ هل تشارك كل أحزاب السلفيين أم حزب النور فقط؟ هل تشارك كل مشاريع الأحزاب أم

 

المشهرة فقط؟ ماذا عن القوى الثورية؟ هل كل الائتلافات سواء؟

 

ثانيا: ما هو الوزن النسبى لكل فصيل سياسى؟ هل يتساوى الجميع مثلا؟ أم توزع مقاعد حسب حجم القاعدة الشعبية لكل فصيل؟ وهل توزع على أساس تقسيم تيارات واسعة فنقول عدد كذا من المقاعد للإسلاميين؟ أم توزع بشكل أكثر تفصيلا فنقول هذه مقاعد الإخوان وهذه مقاعد السلفيين؟ أم توزع على كل كيان حزبى فيصير لكل حزب من أحزاب السلفيين حصة؟

 

ثالثا: من يمثل كل فصيل؟ كيف سيتم اختيار ممثلى كل كتلة فى هذا التوافق؟ هل تختارهم هيئات حزبية عليا مثلا؟ من يحدد إذا كان مرتضى منصور، مثلا، يحق له المشاركة أم لا؟

 

لا أفهم دعوة للتوافق لا تجيب عن تلك الأسئلة ولا أرى طريقة للإجابة عنها غير الانتخابات. فالشعب، حين ينتخب، سوف يحدد القوى التى تعبر عنه ويحق لها المشاركة فى صياغة التوافق، وسيتحدد وزن كل فصيل بمقدار ما حقق من مكاسب فى الانتخابات. ثم ينتخب هؤلاء الذين أنابهم الشعب عنه من يمثلهم فى اللجنة التأسيسية.

 

عدا هذا يكون الكلام فعلا عن وصاية، وغالبا سينتج عنه مهزلة شبيهة بدعوة ائتلافات الثورة للقاء المجلس العسكرى بالفاكس.

 

ولكن من ينادى بالانتخابات أيضا يقع فى زلة الحق الذى يراد به باطل حين يتحدث عن أغلبية تصيغ الدستور. بل والآن ينادى التحالف الديمقراطى باختيار اللجنة عن طريق أغلبية بسيطة لا ثلثَىّ البرلمان! هل يعقل أن يتم تجاهل ٤٩٪ من الناخبين أثناء صياغة الدستور؟

 

لذا أرى أننا بالفعل نحتاج لمعايير لاختيار اللجنة لضمان أن تكون لجنة توافقية، وقد ساهمت سابقا ــ أثناء محاولة من ضمن محاولات عديدة لتوحيد النخب السياسية باءت كلها بالفشل ــ بصياغة مقترح لتشكيل الجمعية التأسيسية، من هذا المنطلق أكاد أجزم بأن وثيقة السلمى اقتبست من مقترحى بعد تشويهه، لذا أعيد طرحه هنا.

 

اقترحت أن توزع نصف مقاعد اللجنة التأسيسية على الكتل الحزبية الممثلة فى البرلمان بنفس أوزانها: فمن حصل على ١٠٪ من البرلمان يحصل على ١٠٪ من المقاعد الخمسين فى اللجنة.

 

ونظرا لصغر حجم لجنة صياغة الدستور مقارنة بالبرلمان سوف يستحيل أن تعكس اللجنة تشكيل البرلمان بدقة، لذا اخترت فى مقترحى الانحياز للتنوع والتوافق على حساب انضباط النسب. ومن هنا جاءت فكرة أن الحد الأدنى لكل كتلة هو مقعد واحد (ليس المقصود أنه كان يمكن مشاركة حزب بنصف مقعد، وإنما المقصود أنه حتى لو فاز حزب بمقعد واحد فقط فى البرلمان يحق له مقعد فى اللجنة)، وتوزع المقاعد على الكتل الأصغر فالأكبر وبحد أقصى عشرين مقعدا، وطبعا ينتخب نواب البرلمان من يمثلهم.

 

اقتبست وثيقة السلمى مقترحى ولكن فرغته من معناه، فقَصْر التمثيل النسبى للكتل الانتخابية على خُمْس بدلا من نصف اللجنة، وتحديد الحد الأقصى بخمسة مقاعد فقط، يلغى تماما الفرق بين من فاز بثلث البرلمان ومن فاز بمقعدين، ويُحَوِّل المسألة من محاولة لخلق توافق بدون التعدى على اختيارات الشعب إلى تمثيل مشرف والسلام.

 

كما قلت: الأصل هو أن ينوب عن الناس منتخبون، لذا من ينادى بإدخال أعضاء من خارج البرلمان فى لجنة إعداد الدستور يطلب أمرا استثنائيا وعليه أن يشرح لماذا يطلبه. أغلب من نادى بتوزيع مقاعد على هيئات أو مؤسسات مختلفة بَنَى اقتراحه على عدم أهلية الناخب المصرى.

 

أما اقتراحى بحصر الكتل البرلمانية فى نصف اللجنة فقط فمبنى على قناعتى بعدم أهلية الأحزاب لا الناخبين. فالأحزاب للأسف يهيمن عليها شخصيات نخبوية، أغلبهم من كبار السن، أثبتوا قصور خيالهم، وانفصالهم عن الواقع، والشارع. الناخب كامل الأهلية، ولا يحق لأحد الوصاية عليه ولكنه يختار من المتاح، والمتاح شحيح.

 

لذا اقترحت أن تخصص باقى مقاعد اللجنة لممثلين لنقابات عمالية مستقلة واتحادات فلاحين ونقابات مهنية ولجان الثورة الشعبية وائتلافات شباب الثورة والمشتغلين بالقانون والمشتغلين بحقوق الإنسان والفنانين والمبدعين والصحفيين والإعلاميين والمعاقين وغيرها من فئات شعبنا المختلفة.

 

ولكن: من يحدد ممثلى تلك الفئات؟ هل نجعل نقابة الأطباء وصية على الشعب كله باختيارها ممثل لها؟ ماذا عن الفئات الفضفاضة مثل ائتلافات الثورة؟ لا مفر من العودة للبرلمان إذا، وهنا المنطقى الالتزام بالأغلبية ولتكن أغلبية الثُلثين، فيفرض على اللجنة تنوع خلاق يدعم التوافق، لكن تحترم إرادة الشعب وتُعوِّض الأغلبية أى نقص فى حصتها من النصف الحزبى من اللجنة.

 

وبما أنه معروف عن نخبنا السياسية مركزيتها وانغلاقها على نفسها، اقترحت أن يكون التمثيل فى مجمله يشمل عضوا من كل محافظة مع رفع الحصة لعضوين فى حالة الجماعات ذات الخصوصية الثقافية (البدو والنوبة). وأن يكون ربع اللجنة على الأقل من الشباب وربع على الأقل من النساء.

 

وثيقة السلمى، بالمقارنة، خصصت ٨٠٪، لا النصف، لممثلى الهيئات وقلصت دور البرلمان فى أن يختار بين اثنين ترشحهم كل هيئة. أما الأخطر فى مقترح السلمى فهو اقتراح تمثيل هيئات رسمية ــ وأغلبها بالتعيين لا الانتخاب ــ بل وتخصيص عدد كبير من المقاعد لممثلى السلطة التنفيذية، بما فيهم الجيش والشرطة وممثلى السلطة القضائية.

 

وفى هذا قمة الوصاية: فالدستور والمجالس النيابية وجدت لتقويم أداء السلطات المعينة، ولحماية المواطن من بطشها واستبدادها، ويتساوى فى ذلك الشرطة والقضاء. ولا أعرف كيف يلتبس على دعاة الديمقراطية والليبرالية مفهوم الفصل بين السلطات بهذا الشكل. فبحُجَّة عدم حياد البرلمان فى قضايا مثل نسبة العمال والفلاحين نترك للقضاة تحديد اختصاص المحاكم وللعسكر تحديد شكل الدولة؟

 

تزامن هذا المقترح مع مقترحات لمبادئ دستورية تحدد الحد الأدنى للتوافق بين القوى السياسية. وكان الهدف منها هو طمأنة فريق الدستور أولا، حتى يتوافق الجميع على إقامة الانتخابات فى لحظة بدا فيها احتمال عدم إقامة الانتخابات قائم. أما وقد بدأت بالفعل ترتيبات الانتخابات، وبمشاركة أغلب القوى والأحزاب، انتفت أسباب صياغة مبادئ واحدة توافقية، بل أظننا الآن بحاجة لوثائق عدة.

 

فعلى كل تحالف انتخابى أن يصيغ وثيقة مبادئ تعبر عن خطته للدستور، وتكون بمثابة برنامج انتخابى يختار الناخب على أساسه ممثليه، ويحاسبهم إن حادوا عنه.

 

أما المشترك ما بين تلك الوثائق فسيدخل تلقائيا فى الدستور الجديد؛ فهو محل اتفاق بلا اجتماعات ولا لقاءات ولا ضغط فيه، والمختلف عليه سيكون محل الجدل والنقاش والتفاوض داخل اللجنة التأسيسية إلى أن نصل للتوافق.

 

نحتاج لوثائق عدة، ليس فقط من الأحزاب؛ فيجب على كل التنظيمات والكيانات الشعبية أن تتقدم بوثائقها ومبادئها وموادها المقترحة للدستور، تطرحها على الرأى العام أولا وعلى اللجنة التأسيسية ثانيا، فاللجنة تنوب عن الشعب فى التفاوض والصياغة، ولكن لا تنوب عنه فى الحوار والجدل والإبداع.

 

و بالفعل لدينا مبادرات، مثل «بردية المبادئ الدستورية لحماية حقوق الإنسان» التى اقترحها تجمع للمنظمات الحقوقية، ومسودة مادة عن دور ومكانة الثقافة قدمها ائتلاف المؤسسات الثقافية المستقلة، وغيرها، وغيرها.

 

لذا ذيلت مقترحى لتشكيل اللجنة بفقرة ــ لم تقتبسها وثيقة السلمى ــ عن آليات عمل اللجنة التأسيسية، تنص على علنية مداولاتها، وإقامة جلسات استماع علنية لمقترحات المواطنين، وآليات لاستقبال مقترحات من جميع الهيئات والتنظيمات خصوصا الشعبية.

 

هل سنتوافق على الخروج من نفق وثيقة السلمى لبراح الوثائق المتعددة؟ هل يمكننا أن نتخلى عن منطقى الوصاية والمغالبة لصالح ديمقراطية حقيقية؟ أم سنظل سجناء صراعاتنا النخبوية حتى نصطدم بدستور صاغه حفنة من اللواءات بمشاركة بعض القضاة لزوم الواجهة المدنية؟

 

تنويه: أعدّ علاء هذا المقال قبل أن يعرف بالذى يجرى فى التحرير

 وبلاد مصر الآن.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved