المطالب (الفئوية) للجيش ومصير التحول الديمقراطى

سامر سليمان
سامر سليمان

آخر تحديث: الخميس 24 نوفمبر 2011 - 9:55 ص بتوقيت القاهرة

هل نحتاج إلى كل هذه الدماء التى سالت وإلى كل تلك العيون التى فقأت وكل القلوب التى لوعت على فراق الأحبة لكى يتأكد المجلس العسكرى أن هناك عالما قديما قد ولى وأن هناك عالما جديدا قد ولد، وأن قواعد اللعبة فى العالم الجديد مختلفة كثيرا عن قواعد العالم القديم، وأن التعامل مع الشعب الآن يجب أن يخضع لمعايير جديدة؟ هذا العالم الجديد صحيح ولد فى يناير وفبراير 2011، لكن مصر كانت حاملا فيه من بداية الألفينيات. أعراض الحمل كانت تفقأ العين.. قنوات فضائية، وشبكات معلوماتية، إنترنت وهواتف محمولة، فيس بوك وتويتر. الشعب المصرى يمتلك اليوم من أدوات الاتصال والمعرفة ما يحرر عقله من أسر جهاز الدولة الإيديولوجى المتخلف الذى يبث خطابا سياسيا عفى عليه الزمن. من عاش الثمانينيات قد يتذكر أن القنوات المتاحة أمامنا وقتها لم تكن إلا القناتين الأولى والثانية. وأن مبارك عندما كان يخطب فينا، كان التليفزيون يذيع الخطاب على القناتين مرة بالعربية ومرة مترجم للإنجليزية (لأن العالم كله بالطبع كان ينتظر خطاب مبارك)، ويعيد بثه مرات ومرات من الصباح حتى المساء. وكان يتخلل ذلك دعوة بعض المعلقين لكى يشرحوا للمشاهدين عبقرية خطاب الرئيس. هذا العصر مات وشبع موت.

 

●●●

 

منذ سقوط مبارك يحاول البعض إقناعنا أن المجلس العسكرى هو إعادة إنتاج لنظام مبارك، بل أحيانا ما يقال إنه محاولة لإعادة إنتاج تجربة الحكم العسكرى فى الخمسينيات. هذا غير صحيح وغير ممكن. الشعب اليوم يمتلك من الأدوات التى تجعله قادرا على مقاومة الديكتاتورية، أدوات لم تكن متاحة لآبائنا وأجدادنا. فى الخمسينيات كان النظام يمتلك الراديو ويسيطر على الصحافة وعلى المطبوعات. وكان المعارضون لا يملكون إلا طبع مئات منشورات بماكينات البالوظة. اليوم المعارضون يمتلكون من أدوات الاتصال ما يجعل رسالتهم تصل إلى الناس فى ثوانٍ. الديكتاتورية فقدت أحد أسلحتها الرئيسية وهى احتكار وسائل الاتصال وهى الآن تحتاج إلى تجديد نفسها ومنافسة الفكر والممارسة الديمقراطية فى ساحة مفتوحة نسبيا. فكر جمال مبارك «الجديد» كان محاولة لتجديد الديكتاتورية من خلال التعامل مع أدوات العصر. وقد فشل وهزم، وها هو يقبع فى السجن. فكيف لمن لا يجيد التعامل مع أدوات العصر أن يسيطر على أدمغة الناس بواسطة خطاب فقير ملىء بالأكاذيب؟

 

المجلس العسكرى يجب أن يتكيف مع حقائق العصر. يجب أن يعلم أن خطوطه الحمراء قد سقطت وأن شئون الأمن القومى لم تعد حكرا عليه فى عصر سيادة الشعب. لقد صدعوا أدمغتنا بإدانة المطالب «الفئوية» التى تعطل عجلة الإنتاج والتى تعوق المسيرة. وحين حانت لحظة الحقيقة وجدناهم يدسون مطالبهم الفئوية فى وثيقة دستورية أو ميثاق شرف تحتاجه البلاد بشدة لكى يضمن الإنسان مصرى حقوقه الأساسية ولكى نحمى الشعب من قيام طغيان جديد بواسطة حزب أو جماعة تحصل على أغلبية برلمانية. وها قد أفسدوا علينا الوثيقة وساهموا بشكل فعال فى خلق حالة من الانقسام. وما الجديد فى ذلك؟ ألم يدقوا أول إسفين فى صفوف القوى السياسية حين شكلوا لجنة لتعديل الدستور على مقاسهم، لجنة منحازة لتيار بعينه، لجنة وضعت مستقبل البلد وصياغة دستوره فى يد الأغلبية البرلمانية القادمة، دون حتى أن تكلف نفسها عناء أن تشترط على الأغلبية البرلمانية التى ستختار لجنة الدستور أن تكون أغلبية كبيرة تتجاوز ثلثى البرلمان. وهكذا يريدون لنا أن نبدأ فى غضون عدة أيام انتخاب برلمان لا يمتلك أى لائحة أو قواعد متفق عليها، برلمان مهيأ للعراك والانقسام. أى منطق هذا؟

 

●●●

 

المطالب «الفئوية» ليست عيبا فى حد ذاتها. من حق كل فئة أن يكون لها حقوقها المشروعة التى تعبر عنها وتدافع عنها ومن حقها على المجتمع أن يستمع إليها وأن يهتم بها. فما هى المطالب «الفئوية» التى دسها المجلس العسكرى فى وثيقة السلمى؟ المجلس يريد أن تكون له استقلالية مالية عن الدولة. ولكى نفهم الموضوع يجب أن نعود قليلا إلى الوراء، إلى عصر مبارك المشؤوم. كانت أوضاع الدولة فى عهد مبارك استثنائية. فبسبب ضعف شرعية النظام كان من الصعب حصول الدولة على ما تستحقه من إيرادات من خلال ضرائب المواطنين. فالمواطن يلتزم بالضرائب عندما يؤمن بشرعية النظام وحين يثق فى كيفية إنفاق الدولة للضرائب. إذا أضفنا إلى ضعف إيرادات الدولة الفساد المستشرى فيها يمكن أن نتفهم لماذا كانت أجور ومخصصات مختلف أجهزة الدولة ضعيفة، ويمكن أن نفهم أيضا كيف مال مبارك إلى أن يترك الحرية لكل قطاع فى الدولة «أن يتصرف». فالمدرس يعطى دروسا خصوصية، والموظف يمارس أعمالا أخرى، والطبيب فى المستشفى العام يتنقل من مستوصف إلى آخر لكى يحصل على الحد الأدنى، الخ. فى هذا السياق كان على القوات المسلحة أيضا أن تعتمد على مواردها الخاصة وأن تنشئ اقتصادا موازيا يؤمن لها احتياجاتها.

 

هذه الأوضاع الاستثنائية يجب أن تنتهى. إن مقولة أن هذه المؤسسة العامة أو تلك لا تكلف ميزانية الدولة كثيرا وتخفف العبء عن كاهل الدولة هى من مقولات العصر البائد. المؤسسة العامة التى لا تكلف ميزانية الدولة كثيرا هى مؤسسة مستقلة عن الدولة ماليا. إن وحدة ميزانية الدولة هو مبدأ مقدس فى المالية العامة، وهو مبدأ داس عليه نظام مبارك بالحذاء. هذا المبدأ يعنى ضرورة احتواء ميزانية الدولة على كل الإيرادات والمصروفات العامة. إدخال الميزانية الكلية للجيش فى ميزانية الدولة هو جزء من إعادة الاحترام لوحدة الميزانية العامة. وما يسرى على الجيش يسرى أيضا على الصناديق الخاصة التى أنشأتها العديد من مؤسسات الدولة خارج الميزانية العامة. لقد تحولت الدولة ــ وهى مجموع المؤسسات العامة ــ فى عهد مبارك إلى إقطاعيات مالية شبه مستقلة. إن إعادة توحيد مالية الدولة المصرية هو أحد الشروط الأساسية لتوحيد الدولة، أى للحد من الميول الانقسامية والانفجارية التى جعلت من هذه الدولة جزرا منعزلة. أليس توحيد دولة مصر هى مسألة أمن قومى؟ أليس توحيد الدولة وتناغمها الداخلى هو أحد الشروط الأساسية لكى تقود عملية التنمية الاقتصادية؟ هذا ما تعلمناه من الفكر التنموى. فهل ما تعلمناه هراء؟ ربما. ولكن فى هذه الحالة نحتاج إلى الشرح والإقناع وليس للإرهاب والإسكات. لم تعد أدوات الإسكات تجدى. لم يعد أحد يملك قطع ألسنتنا. 

 

الجيش هو جيش الشعب. وهو بالتالى هو شأن يخصنا وهو له حقوق علينا. وهو بالتأكيد طرف أساسى من الأطراف التى لها حقوق مشروعة يجب أن تحترمها كل القوى السياسية. إن انسحاب المجلس العسكرى من القيادة المنفردة للعملية السياسية يعطى الفرصة للجيش أن يطرح مطالبه الفئوية على مائدة التفاوض بدون أن يتعرض لشبهة استغلال قيادته السياسية للبلاد من أجل فرض مطالب «فئوية» أنانية. لقد كنت من أنصار عدم طرح موضوع الميزانية العسكرية الآن للنقاش العام وتأجيله لحين ظهور سلطة ديمقراطية منتخبة تستطيع أن تفاوض المجلس العسكرى من موقع القوة. لكننى اليوم أظن أن طرح الموضوع بصراحة والتوافق على حلول وسط بشأنه هو أحد المخارج الأساسية للأزمة التى نعيشها هذه الأيام لأننى أشك أن هذا الموضوع هو أحد العوامل الكامنة وراء انفجار العملية السياسية فى مصر فى الأسبوع الأخير. الصراحة راحة. هكذا قال أجدادنا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved