تسريحة المغنية الصلعاء

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: الأحد 24 نوفمبر 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

قطارات الموت وحوادث الطرق التى تسفر عن العشرات من الضحايا بسبب الأخطاء نفسها، والمشهد المتكرر للشباب الذى يهرول فى الاتجاه وعكسه ويقذف المنشآت العامة والمارة بالطوب كما لو كنا أمام أطفال الحجارة خلال الانتفاضة الفلسطينية، وإطارات السيارات المشتعلة لتغطى على رائحة الغازات المسيلة للدموع أو لقطع الجسور... جميعها صارت ضمن الروتين العبثى للمواطن المصرى... هى إشارات أن الحلقة المفرغة بدأت دائرتها المفرغة.. لف ودوران، ثم لف ودوران حتى الشعور بالإعياء والغثيان. نحتفل بذكرى فإذا بالذكرى تتحول إلى ذكرى أخرى مؤلمة، تزيد الشارع انقساما، فلا مجال سوى لحوار الطرشان والأحاديث التى لا تسفر عن شىء ولا رابط بينها سوى اللامعقول... كأننا فى مسرحية «المغنية الصلعاء» للكاتب أوجين يونسكو، رائد مسرح العبث... فكل أحداث المسرحية لا علاقة لها بالعنوان من قريب أو من بعيد، فقط عبارة وردت عرضا عندما تقرأ النص، هى سؤال وجواب يأتيان فى خضم الحوار:

ــ ما هى أخبار المغنية الصلعاء؟

الإجابة: مازالت تصفف شعرها بالطريقة نفسها.

ومن هنا يأتى عنوان المسرحية التى تصنف ضمن أفضل مائة كتاب فى القرن العشرين. الكاتب يسخر من رتابة الحياة اليومية، فالأحداث تتكرر والأحاديث لا معنى لها... ينتظر السيد والسيدة سميث، زوجين آخرين هما آل مارتان، ومن خلال هؤلاء يكون النقد اللاذع للمجتمع البرجوازى وعبث الأشياء والحياة معا.

•••

قبل أكثر من عشر سنوات، شاهدت عرضا حديثا ومبتكرا لمسرحية «المغنية الصلعاء» قدمه مخرج من رومانيا (للأسف لا أذكر اسمه)، وهو مقيم بباريس، مثله مثل الكاتب أوجين يونسكو الذى ولد فى رومانيا عام 1909 وتوفى فى باريس عام 1994. المخرج الشاب وقتها عايش ثورة رومانيا سنة 1989 التى أطاحت بنظام نيكولاى تشاوتشيسكو، بل وأسفرت عن إعدامه هو وزوجته، بشكل درامى سيظل عالقا بالأذهان. عايش أسبوعا من الانتفاضات والشغب، احتار الناس فى تصنيفه: هل ما شهدته رومانيا كان انتفاضة شعبية عفوية؟ أو انقلابا من داخل النظام بمساندة أجهزة أجنبية؟ أم ثورة مسروقة، صودرت لحساب آخرين؟ كذلك عايش المخرج مرحلة ما بعد الثورة التى كان يجب خلالها إعادة بناء كل شىء فى الدولة: المؤسسات، الاقتصاد، والأهم العقول... تلك التى تم تشويهها وتطويعها خلال سنوات وسنوات من الحكم الشمولى، والتى أصبح من الصعب معالجتها لأن عطبا أصابها فى مقتل، فكان موطن الداء. عايش المخرج أيضا صرخات الانتقام للحشود التى تكره حتى الثمالة، ثم من بعدها التحالفات والانتخابات التى أتت بالرئيس إيون إيليسكو. وقد جاء هذا الأخير بمستشارين من النظام القديم، أى «فلول» كما نسميهم نحن فى مصر... ربما كان ذلك هو سبب اختيار المخرج لمسرحية «المغنية الصلعاء» حيث العبث سيد الموقف، وكلما تجرى بنا الأحداث نجدنا فى الدائرة نفسها، تصاحبنا ذات الوجوه القديمة... فى وقت كان شعب رومانيا يحلم بالتغيير، ويظن أنه بمجرد الخلاص من تشاوتشيسكو سيلحق بقطار الديمقراطية الليبرالية فى غمضة عين.

•••

فى نهاية المسرحية، استرجع المخرج كل الأحداث وحركات الممثلين بسرعة شديدة وبالمقلوب، كما لو كنا كبسنا زر (Rewind ) لتجرى المسرحية أمامنا بالعكس، فى أداء مذهل وصل بالعبث والسخرية إلى ذروتهما... وهو ما نشعر به كل يوم... فلازالت «المغنية الصلعاء» تصفف شعرها بالطريقة نفسها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved