الثورات بين الثوار والأشرار والأنصار

محمد محمود الإمام
محمد محمود الإمام

آخر تحديث: الإثنين 24 نوفمبر 2014 - 8:35 ص بتوقيت القاهرة

قبل مواصلة الحديث عما تعرض له التخطيط فى مصر خلال النصف الثانى من الستينيات، أجد من المفيد التوقف قليلا لتأمل ما تواجهه العملية التخطيطية فى أعقاب أى ثورة من موجات تغيير جذرية متلاحقة فى معالم المجتمع بأبعاده السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وتنفذ إلى أعماق قواعده الثقافية، ليس فقط نتيجة الفعل الثورى الإرادى الذى يمارسه الثوار، بل وأيضا فى مواجهة ردود أفعال قوى داخلية وخارجية، بعضها يمكن التكهن به مسبقا، والأكثر يدخل فى عداد مفاجآت تستدعى إعادة نظر شاملة فى حسابات الممسكين بزمام الأمور عقب مرحلة الانتفاض الثورى، لكى تتبين الخطوط الفاصلة بين الهيكلى والوظيفى للتخطيط.

وحين تعرّف الثورة بنسبتها إلى تاريخ معين، 1919 أو 23 يوليو أو 25 يناير، يتبادر إلى الذهن أنها لم تستغرق سوى ساعات محدودة نجحت خلالها فى إحداث التغيير الذى طالبت به، وإغلاق الباب على عهد مضى وبدء عهد جديد مفعم بالآمال والأحلام، فما علينا سوى الاسترخاء والتقاط الأنفاس بعد أن اجتزنا عنق الزجاجة، لنفاجأ بأن الاجتياز ترك الجميع أمام قائمة طويلة من التساؤلات وخضم مليء بالمتناقضات، وتبدأ الشكوك تتسرب إلى النفوس حول مصداقية الثورة وجدواها. وتتصاعد هذه الشكوك لتصل إلى حد اتهام الطليعة الثورية بالتضليل، بل وربما تصارع أعضاؤها فيما بينهم ليدخل المجتمع نفقا مظلما لا تظهر بارقة أمل للخروج منه بصورة آمنة. ويتوقف الكثير على طبيعة الثورة وتشكيل من يدرجون فى عداد الثوار.

•••

هناك ثورات تتخذ شكل انتفاضة شعبية للتخلص من حاكم مارس البطش والجور بحقوق فئات عريضة من الشعب فحرمه من التمتع بثمار كدِّه وكفاحه ليجعل حياته لا تطاق. وقد شهدت مصر هبَّات من هذا النوع خلال فترات الخلافة، فى وجه ولاة تجاوزوا حدود سلطاتهم لتحقيق مطامع شخصية فغالوا فى فرض الضرائب. ويمكن إدراج انتفاضة 18 و19 يناير 1977 ضمن هذا النوع. لكن ما يدخل فى عداد الثورات هو ما يسعى إلى التخلص من حاكم مستبد أقام نظاما تعاونه فى تسييره مجموعة من المؤسسات يعطى العاملين فيها مزايا لتعيينه على الانفراد بالسلطة، وهنا يصبح القضاء على النظام القائم هو المخرج الوحيد أمام الغالبية مهضومة الحقوق. وقد كان هذا هو الدافع لاندلاع الثورة الفرنسية فى منتصف 1789، حيث كان النبلاء معفون من الضرائب، وأدى إسراف الملك لويس السادس عشر إلى تفاقم الضرائب على عامة الشعب إلى الحد الذى جعل دخولهم لا تكفى للحصول على الخبز (فكان تعليق مارى أنطوانيت الأبله هو: لماذا لا يأكلون جاتوه!ّ!). وفتح هذا طاقة التمرد على كم المظالم التى أصابت الشعب، فكانت ثورة شاملة، تمخضت أحداثها عن إمساك مجموعات نصبت نفسها قادة للثورة، سرعان ما بدأ الخلاف يدب بينها. ورغم إقرار إعلان «حقوق الإنسان والمواطن»، تحقيقا لشعار الثورة: «حرية ــ مساواة ــ إخاء»، جرى إعدام رموز النظام الملكى، ثم تصفية فصائل ثورية بعضها البعض. ولم يستتب الحال إلا بعد عقد من الزمان تراجعت خلاله القوى المتشددة وقويت شوكة الطبقة البورجوازية فمهدت لتولى نابليون بونابرت الحكم.

وكانت الأطراف الثلاثة فى هذه الثورة: ثوار تقدموا الصفوف وشعب ناصرهم، فى وجه مجموعة من الأشرار شملت النظام السابق الذى أزيح عن الحكم، وقوى خارجية فى النمسا وبروسيا اللتين خشيتا امتدادها إليها، وأطراف داخلية تحينت الفرص لتوجه بوصلة الثورة نحو الاستيلاء على السلطة مرتدية ثيابها. وانتهى الأمر إلى إقامة نظام جديد لم يسبق نشأته تصور واضح المعالم عند اندلاعها. وسجل التاريخ ثورات مماثلة فى أوروبا، تأثرت بأفكار فلاسفة عصر التنوير، وتخللها صراع مذهبى وسعى للحد من سطوة الكنيسة.

•••

وشهد الوطن العربى نوعا آخر من الثورات قام به حكام ولايات عربية على الإمبراطورية العثمانية، من أهم صوره «الثورة العربية الكبرى» فى منتصف 1916 التى أراد بها الحسين بن على شريف مكة انتزاع الخلافة من الخليفة العثمانى. وساعدته بريطانيا بناء على نصيحة وزير المستعمرات ونستون تشرشل، تجنبا لاستنفار الخليفة الجهاد الإسلامى إذا قام الحلفاء بمحاربته فى أراض إسلامية أثناء الحرب العالمية الأولى. وعندما أنجز المهمة اكتشف أنهم أقروا اتفاقية سايكس بيكو لتمزيق الوطن العربى فيما بين بريطانيا وفرنسا، ولم يسمحوا له إلا بتولى ملك الحجاز وشرق الأردن. كان الثائر ممسكا برئاسة الدولة التى أراد انتشالها من إمبراطورية وصفت بأنها «رجل أوروبا المريض»، ولم تملك الشعوب سوى الانصياع لأمره، ولكن قوى الشر الاستعمارية استغلت الثورة أسوأ استغلال.

وتبع ذلك إقامة نظم وكيلة للاستعمار فى ظل استقلال صورى، مما أيقظ الحس الوطنى بضرورة التخلص من التبعية التى استعاض بها الاستعمار عن الاحتلال السافر. وفى الوطن العربى كان اعتماده على قناتين: الأولى غرس كيان صهيونى يمارس استعمارا استيطانيا يهدد بالتوسع لابتلاع البلدان المجاورة، والثانية مساندة رأسمالية محلية رثة تتولى متابعة ارتباط اقتصاداتها بالمركز الاستعمارى لتواصل تزويده بالمواد الأولية وفتح أسواقها لما لا يخدم التنمية من منتجاتها. ونظرا لتركيز القوة والثروة بيد الفئة الحاكمة، وترويض الشعب على الاستكانة إلى ما تُرك له كأنه قدر محتوم، فإن المنطقة عجت بانقلابات قامت بها فيالق من القوات المسلحة، تخفت فى زى ثورات ترفع شعارات تدغدغ بها مشاعر الغالبية مهضومة الحق، خاصة فى أعقاب تكرر الهزائم على أرض فلسطين.

كانت ثورة 23 يوليو هى الوحيدة التى أدركت ضرورة إعادة بناء التنظيم الاجتماعى بأكمله وليس مجرد تغيير النظام الحاكم، لتمكين مختلف الشرائح الوطنية من توجيه الاقتصاد القومى نحو توفير متطلبات حياة كريمة لها وعدالة فى توزيعها، فى إطار تنمية مستقلة لا تعنى قطيعة مع العالم الخارجى بل تحقق التكافؤ فى التعامل معه. هذه الرؤية التى امتلكها ثوار يوليو أكسبتها أنصارا من الغالبية المتمثلة فى قوى الشعب العاملة، وفرضت عليها الوقوف بحزم فى وجه باقة الأشرار ثلاثية الأبعاد: النظام الذى أسقطته، والاستعمار الراعى له، وأعوانه الذين مالأ بعضهم الثورة تمهيدا للانقلاب عليها وإعادة الأوضاع إلى ما كانت عليه. ولعل هذه الأخيرة كانت أشد مصادر الخطر على الثورة.

•••

أحد أوجه الخطر أن محاولة تجنب تغلغلها دفعت إما إلى القضاء على من يشتبه بانتمائه لها، وهو ما يصبغ الثورة بصبغة دموية لا تتفق مع نبل أهدافها، أو الاكتفاء بإقصائهم. وجه آخر هو إشاعة جو من التكتم حول سلسلة الإجراءات اللازم تعاقبها لبناء النظام الذى تتبناه الثورة والتى تستغرق وقتا طويلا بحكم طبيعة التغيرات الاجتماعية، وهو ما ينطوى على احتمال تحول الثورة إلى أوتوقراطية تضعف الرغبة فى مناصرتها. ويتيح هذا الفرصة لفريق من الممالئين الذين يتحينون الفرصة للانقضاض على الثورة بثورة مضادة، كالانقلاب الذى حدث فى 15 مايو 1971 باسم ثورة التصحيح. ووجه الخطر أن النظام الذى تفرضه يكون محتاجا لمساندة قوى الشر الخارجية، التى تقدمها وفق ما تتطلبه مصالحها. ويبلغ هذا الخطر أقصى مداه إذا ما أفضت هذه التطورات إلى اندلاع ثورة للتخلص من النظام التابع، فتستغل قوى الشر الخارجية حالة الضبابية التى تعقبها لإنهاك القوى الداخلية المتشاحنة، وهدم المؤسسات المسئولة عن الأمن والعدالة لتسيطر على الدولة الجديدة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved