أسئلة محيرة لا تجد جوابًا وخطة مقترحة لتحرك جماعى

سيد قاسم المصري
سيد قاسم المصري

آخر تحديث: السبت 24 نوفمبر 2018 - 12:05 ص بتوقيت القاهرة

أنا عائد لتوى من محافظة المنيا حيث كنت فى زيارة لقريتى بمركز مغاغة وقمت خلالها بزيارة للأنبا أغاثون أسقف مغاغة والعدوة بمقر المطرانية بمدينة مغاغة... لتقديم واجب العزاء فى شهداء الاعتداء الغاشم على زوار دير الأنبا صموئيل، وقد عبرت له عن الأسف أن زيارتى الأولى له تتم فى مثل هذه الظروف.. وقد قص على ما سمعه من الجرحى والمصابين وبعض الناجين فقال إن الجريمة المروعة وقعت فى نفس المكان وبنفس الأسلوب الذى ارتكبت فيه نفس الجريمة السابقة منذ حوالى عام ونصف..
وأضاف أنه زار الجرحى بمستشفى مغاغة المركزى الذى يبعد عن مقر المطرانية بحوالى خمسمائة متر كما استمع إلى الناجين الذين كانوا فى الأتوبيس وهو الأتوبيس الذى استطاع أن ينجو من اعتداء الإرهابيين.. بينما وقع ركاب الميكروباص فريسة سهلة لهم.
قال إن ركاب الأتوبيس شاهدوا زملاءهم وهم يتعرضون للهجوم بالمدافع الرشاشة فسار الأتوبيس بأقصى سرعة وأبلغ كمين الشرطة بأن زملاءهم يقتلون الآن، فجاءهم الرد العجيب «بأنه ليس لديهم أوامر بإطلاق النار».
أضاف الأنبا أغاثون أنه بعد وقوع الحادثة الأولى تقدموا للسلطات بخمسة مطالب واضحة لتأمين الدير وهى:
- رصف الطريق الترابى (المدق) الذى يصل بين الدير وبين طريق القاهرة – أسيوط وطوله 25 كيلو مترا.
- إنارة الطريق وتسيير دوريات شرطة عليه.
- إنشاء كمين شرطة على مدخل الطريق.
- مد شبكة اتصالات الموبايل لتغطى جوانب الطريق.
وعلى الرغم من مرور أكثر من عام ونصف على هذه المطالب البسيطة والمنطقية فإنه لم ينفذ منها سوى مطلب واحد وهو إنشاء كمين الشرطة الذى ثبت عدم جدواه.
وأضاف أن هناك أسئلة كثيرة لا تجد جوابًا وتستعصى على الفهم.. منها حادثة السيدة المسّنَة التى نُزعت ملابسها هى وزوجة ابنها ومشى بها الإرهابيون فى شوارع القرية ثم سترتها جارة مسلمة بملابس من عندها.
وعلى الرغم من أن الحادثة شاهدها الكثيرون فإن تقارير الأجهزة الأمنية نفت وقوع الحادثة.. مما جعل القاضى – الذى يحكم بموجب الأوراق التى أمامه – يرفض الدعوى المقامة من أبناء السيدة المُسنّة والحكم عليهم بإلزامهم بدفع تعويض نصف مليون جنيه للمعتدين!!
***
كيف يحدث ذلك ولماذا لم يتحقق مجلس النواب والمجلس القومى لحقوق الإنسان من صحة ما جاء بالتقارير الأمنية ولماذا لم يتم تشكيل لجنة تقصى حقائق فى حينه لمعرفة الحقيقة... ثم لماذا نفت أجهزة الأمن وقوع الحادثة أو اعتمدت أقوالا تدعى عدم وقوعها.. إن ترك مثل هذه الأسئلة وغيرها دون توضيح تفتح المجال للخيال الجامح لتأويلات ضارة بأمن المجتمع وتماسكه وتزيد من جرعة المرارة وفقدان الثقة..
أتمنى أن تتدارك الأجهزة المختصة الأمر وتستوعب أبعاد الموقف وتعى خطورة عواقبه وتتعامل مع الأمر بشفافية كاملة وتشرح الأسباب التى أدت إلى عدم الاستجابة للمطالب المنطقية والبسيطة الخاصة بتأمين الطريق برصفه وإنارته خاصة وأن خمسة وعشرين كيلو مترا لا تشكل عبئًا يذكر فى ضوء المشروعات الكبيرة التى يتم تنفيذها فى مجال الطرق ومجال البنية الأساسية بوجه عام.
***
وهذا يقودنا إلى موضوع المواجهة الشاملة للإرهاب.. إننى بصراحة لا أرى جدوى من أسلوب تجديد الخطاب الدينى لأن تجديد الخطاب دون تنقية المنبع ما هو إلا إعادة تغليف لبضاعة قديمة.. وأن المعالجة الحقيقية لن تؤتى ثمارها إلا بتنقية التراث مما شابه عبر السنين من إضافات وتأويلات ومدسوسات وعدم إضفاء هالة التقديس على هذا التراث ومراجعته مراجعة نقدية لأنه – باستثناء الوحى – ما هو إلا جهد بشرى يخطئ ويصيب.
***
أنا بعد تقاعدى من السلك الدبلوماسى عملت أمينا عاما مساعدا لمنظمة التعاون الإسلامى ثم مستشارا لها وقد اطلعت على وثيقة هامة بعنوان «الاستراتيجية الثقافية للعالم الإسلامى»، وهذه الوثيقة تم إقرارها من مؤتمر القمة الإسلامى السادس المنعقد بداكار عام 1991 بالإجماع، وكانت العبارة الحاكمة فيها أو العنوان الرئيسى لها هو «لا شىء مقدس سوى وحى السماء» أى القرآن الكريم وما عدا ذلك فهو من صنع البشر.. وأنه لا يجب معالجة التراث معالجة متحفية بل يجب معالجته معالجة نقدية.
فالشعوب التى لا تراجع تراثها مراجعة نقدية لن يكتب لها التقدم، وهذه الوثيقة أعدها كوكبة من كبار الفقهاء والمفكرين العاملين فى حقل الدراسات الإسلامية فى مختلف الجامعات والمعاهد، وما زالت حبرًا على ورق منذ عام 1991.
وتكمن أهمية هذه الوثيقة فى أنه – ولأول مرة – يجمع العالم الإسلامى ممثلاً فى رؤساء دوله الـ 57 على مراجعة التراث الإسلامى مراجعة نقدية ويعلن للعالم «أن التراث الإسلامى وإن ارتبط بالوحى فإنه ليس بوحى بل هو عمل إنسانى من صنع البشر وفهم بشرى للوحى يجب مراجعته مراجعة نقدية وعدم إضفاء هالة التقديس عليه».
وتنص الوثيقة أيضا على أن التراث المطلوب مراجعته يشمل «علوم التفسير والشريعة والفقه والتاريخ الإسلامى والسيرة والأحاديث النبوية وعلم الكلام والتصوف.
***
لقد تخطى العالم الإسلامى عقبة كئود وخطى خطوة عملاقة إلى الأمام باعتماد هذه الوثيقة وموافقة جميع الدول عليها بما فى ذلك السعودية السلفية الوهابية وإيران الشيعية، إلا أنه لم تتخذ أى خطوات لتنفيذها، ولو أنهم فعلوا وتمت المراجعة وأعيد إصدار الكتب التراثية بعد تنقيتها وتم تعديل المناهج الدراسية لجنبوا العالم الإسلامى المأزق الكبير الذى وقعنا فيه.
***
وإنى أتوجه برسالة إلى السيد الرئيس فأقول: لقد أصبت كبد الحقيقة فى كلمتكم بمناسبة الاحتفال بذكرى مولد الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام عندما طالبت «بإعادة قراءة التراث الفكرى لإنقاذ العقول من حيرتها»، وأكدت «أن الإشكالية الحقيقية الحالية هى القراءة الخاطئة لأصول الدين»..
وعلينا الآن أن نشرع فى اتخاذ خطوات عملية وتنفيذية لبدء المسار الطويل لتنقية التراث كأهم وسيلة لمواجهة الفكر المتطرف..
وعلى الرغم من أن مصر من أوائل الدول التى تبنت هذا المطلب، فإنه من الأفضل ألا تنفرد بهذا العمل، فطالما لدينا هذه الاستراتيجية الثقافية المعتمدة من قادة العالم الإسلامى، وطالما أن المشكلة تخص العالم الإسلامى بأسره، فلماذا لا نتحرك تحت مظلة العالم الإسلامى لأن التحرك فى هذا الإطار الجماعى يقوى فرص قبول التجديد لدى العامة ويشجع على اتخاذ الخطوات العملية مثل تعديل المناهج الدراسية، كما أن التحرك تحت مظلة المنظمة التى تمثل العالم الإسلامى بأثره أفضل كثيرا من ترك الأمر لكل دولة على حدة ويجنبنا شبهة الاتهام بتحريف الدين ويجنب العالم الإسلامى وجود أنماط مختلفة من الإسلام ويغلق على المتطرفين والإرهابيين الباب للادعاء بأن الدين الحقيقى هو المطبق فى الدولة (أ) وليس فى الدولة (ب).
كما أن إعادة إصدار الكتب التراثية بعد تنقيحها بواسطة منظمة العلوم والتربية والثقافة الإسلامية ( الايسيسكو) التى سبق لها الإشراف على إعداد الاستراتيجية الثقافية من شأنه أن يعطى هذا العمل من المصداقية والقبول أكثر مما لو قامت به دولة واحدة .. فضلا عن أن التحرك فى إطار جماعى يفضل كثيرا عن ترك الأمر للجهود الفردية للدول الإسلامية لأن الجهود الفردية تؤدى إلى استمرار الخلافات والحيرة والبلبلة.
***
وأخيرا فإن الإقدام على هذه الخطوة لا ينتقص من دور الأزهر فلابد أن يكون الأزهر هو البؤرة المحورية لهذا العمل خاصة وأن قانون إعادة تنظيم الأزهر يطالب الأزهر «بالعمل على تجديد الثقافة الإسلامية وتجريدها من الشوائب وتجليتها فى جوهرها الأصيل الخالص».
كما أن الإمام الأكبر الشيخ أحمد الطيب سبق أن طالب «بوجوب إعادة النظر فى التعليم ومناهجه ووضع استراتيجية متكاملة يقدم فيها الدين بالصورة التى أرادها الله له» (كلمة شيخ الأزهر فى ملتقى «مغردون» الذى عقد بالرياض على هامش القمة الإسلامية الأمريكية فى 22 مايو 2017 ).
***
هذا هو لب الموضوع وهذا هو الطريق لمواجهة الفكر المتطرف وإعادته إلى سيرته الأولى السمحة الناصعة.. الإسلام الذى يزيل أى احتمال للتعصب ويترك الفصل فى الخلافات بين أصحاب العقائد لله وحده يوم القيامة ( الآية 17 من سورة الحج ).. الإسلام الذى يدعو إلى التعامل بالبر والمودة ليس فقط مع أهل الكتاب بل مع الكفار.. «لاَ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوَهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ » ( الآية 8 من سورة الممتحنة ).
هذا هو الإسلام وهذا هو الطريق.. فهل تطلق مصر شرارة البدء وتتولى قيادة تحرك إسلامى جماعى لوضع الاستراتيجية الثقافية للعالم الإسلامى موضع التنفيذ.. هذا ما يجب أن نسعى إليه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved