سيدة الكتب الأولى

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 24 نوفمبر 2018 - 10:00 م بتوقيت القاهرة

مضيئة من بعيد في بولفار بواسونيير، بالقرب من أوبرا باريس العريقة. تلك هي مكتبة (Ici) أو "هنا" التي تم افتتاحها في نهاية شهر أكتوبر الماضي، وسط احتفاء كبير من الصحف الفرنسية التي أثنت جميعها على هذه المغامرة الثقافية الجديدة وصاحباتاها اللتان لهما باع كبير في مجال الكتب، فبعد أكثر من عشرين عاما عملتا خلالهم لدى "فيرجن ميجاستور" وموقع "آمازون" الإلكتروني لبيع الكتب، قررت ديلفين بويتار وآن لور فيال أن تنشآن مكتبة مستقلة على مساحة 500 متر مربع، وسط العاصمة، تضم حوالي أربعين ألف عنوان. مساحة رحبة يستطيع المتجول فيها الحصول على ما يريد، مع احتساء القهوة أو مقابلة صديق والدردشة معه حول وجبة خفيفة من الطعام.
***
لم يكن الاحتفاء بالمكتبة مجازيا أو معنويا فقط، بل تمت ترجمته على أرض الواقع في صورة تسهيلات وإعفاءات مادية تم تقديمها للقائمين على المكتبة لإنجاح مشروعهما، إذ تعد أكبر مكتبة خاصة يتم افتتاحها في فرنسا منذ عشرين عاما. قامت بلدية باريس بدفع ثمانين ألف يورو للمساهمة في تحويل المكان من محل لملابس الأطفال إلى بيت للكتب، كما خفضت القيمة الإيجارية التي تعد عقبة أساسية على طريق المكتبات الواقعة في مواضع تجارية، لأن البلدية حريصة على ألا تتحول شوارع العاصمة الرئيسية إلى سلسلة من المطاعم ومحال الملابس الجاهزة وتطمس المعالم الثقافية. وذلك بعد أن فقدت باريس 350 مكتبة منذ عام 2000، لأن بعضها كان يعاني من ارتفاع القيمة الإيجارية وانخفاض هامش الربح الخاص به، وبعضها لم يعد قادرا على مواجهة المنافسة الشرسة لمواقع إلكترونية مثل "أمازون" الأمريكي الذ يتبع سياسات بيع لا تلتزم بأي قواعد سوى تخفيض السعر حتى لو استلزم هذا تهرب ضريبي واستغلال المعطيات الشخصية للعملاء وخلافه. كذلك تغيرت أنماط وعادات الشراء، خاصة لدى الشباب والنساء، في ظل وجود المواقع الإلكترونية والمحال الضخمة مثل "فناك" و"فيرجن" التي لا تشتمل فقط على الكتب. لكن الفارق هنا أن أصحاب المكتبات المستقلة لم يكتفوا بنعي سوء حظهم وجلد الذات، بل تمكنوا من حشد جهودهم والتكتل منذ العام الماضي وكونوا منصة تضم 700 مكتبة مستقلة، لها موقع مشترك على الإنترنت، يمكن للقارئ الدخول عليه وشراء ما يريد بشروط تشابه موقع "أمازون"، إذ يمكنهم توصيل الكتب للمنازل خلال مدة قصيرة مستفيدين من انتشارهم الجغرافي وتنوع المحتوى. كان التحرك سريعا مع ملاحظة انخفاض نسب البيع الخاصة بمكتباتهم خلال الأشهر الأولى من سنة 2017 بنحو 9%، فظهر هذا الكيان الفعال المفتوح أمام أي مكتبة مستقلة أخرى ترغب في الانضمام، ففرنسا ككل بها 3200 مكتبة حي، تتراوح بين كبيرة وصغيرة ومتوسطة.
***
ساعد هؤلاء في حركتهم وجود إحصاءات وقاعدة بيانات حديثة تمكنهم من مراقبة حركة السوق والوقوف على تغير عادات القراء ومتابعتها، فمثلا قام المركز القومي للكتاب الذي يرجع تاريخه لأكثر من سبعين عاما بنشر استبيان في مارس من العام الماضي يؤكد فيه أن الفرنسيين يقرأون الآن أكثر من قبل سنتين، وأن 91% منهم يقرأون الكتب، و49% حريصون على القراءة يوميا خاصة في المساء، و28% يقرأ 52 كتابا في السنة. الاستبيان يعطي الكثير من المؤشرات والتفاصيل لمن يرغب في دراسة السوق، منها أن الرواية لاتزال تتصدر المبيعات وأن أغلبية الفرنسيين يفضلون اقتناء الكتب على استعارتها ويحبون كذلك تقديم الكتب كهدايا، بالإضافة إلى أرقام أخرى تدل على عادات الشرائح العمرية المختلفة.
وجاءت ضمن النتائج أيضا معلومات تؤكد على أنه لايزال للمكتبات المستقلة مكانة خاصة لدى القراء، فهي تعد مساحة للتبادل الإنساني المباشر، لا يمكن للمواقع الإلكترونية أن تحل محلها. الجانب الاجتماعي كان هو البعد الأساسي الذي شجع صاحبتي مشروع مكتبة "هنا"، فبحكم خبرتهما عرفتا أن سوق الكتاب في فرنسا أكثر ثباتا واستقرارا من سوق الموسيقى والألعاب الإلكترونية، وأنه يمكنهما الاستفادة من حب الناس لدور صاحب المكتبة العليم ببواطن الأمور الذي قد يساعدهم في الاختيار، وهو الجار القريب الذي يتحدث معهم ويناقشهم، هذا بالإضافة إلى تنظيمه للعديد من اللقاءات والأنشطة الثقافية التي تبعث الحياة في المكان وتجذب الجمهور. وفهمتا أيضا أن مؤسسات الدولة لا تريد التخلي عن المكتبات وحريصة على واجهة فرنسا الثقافية، فبلدية باريس مثلا ستضم "سيدة للكتب" من وظيفتها أن ترد على كل التساؤلات الخاصة بدعم صناعة الكتب وبيعها. وكما هو الحال بالنسبة للعديد من المهن يجب على أصحابها تنظيم أنفسهم والابتكار الدائم إذا كانوا حريصين على البقاء.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved