روايات افتراضية وشعـب حقيقى

فوّاز طرابلسى
فوّاز طرابلسى

آخر تحديث: السبت 24 ديسمبر 2011 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

 السيادة السورية مصانة من التدخل الخارجى. القول على ذمة وزير الخارجية وليد المعلم. صدق أو لا تصدق. وقعّت دمشق بروتوكول المراقبين العرب بعد أن صدر قرار من الجمعية العمومية للأمم المتحدة يدين انتهاكات حقوق الإنسان فى سوريا. واعترفت العاصمة السورية بأن التوقيع تم بناء على «نصيحة» روسية. وروسيا ليس طرفا خارجا. أليس كذلك؟ وفيما توارى التدخل التركى فى أروقة الجامعة العربية، برز لأول مرة دور إيرانى غامض لا يعلّق على أنباء تقول إن مبادرة التوقيع «أخذتْ فى الاعتبار وجهة النظر الإيرانية» لكن مرجع عدم التعليق إياه يعلّق أن المبادرة «لا تعالج كل المسائل». بعبارة أخرى، لا يبدو أن طهران مرتاحة كثيرا لما يجرى. مهما يكن، ثمة وافد جديد يدّعى أنه أبو المبادرة وأمها ولا أب ولا أما لها غيره. هى بغداد تعلن على لسان أحد المقربين من رئيس الوزراء المالكى، العائد للتو من واشنطن، أن المبادرة العتيدة «عراقية خالصة» وتنفى حتى وجود «أصابع إيرانية » فيها. والتصريح لـ«المقرَّب».

 

لماذا الآن؟ يصعب الاقتناع بأن تعديلات أساسية أدخلت على المبادرة لترضى بها دمشق. لا الأمين العام للجامعة يتحدث عن تعديلات أكثر من لفظية أو شكلية، ولا وزير الخارجية السورية يجهر بتعديلات مهمة. على أن هذا ليس ينفى وجود علامات استفهام حول الصفقة الجديدة. هل أن نشر المراقبين لا يزال جزءا من «سلّة» من الإجراءات تشمل وقف أعمال العنف وإطلاق سراح المعتقلين وانطلاق الحوار مع المعارضة؟ أم هل جرت مبادلة مجرد التوقيع على بروتوكول المراقبين برفع العقوبات؟ يجيب أمين عام الجامعة العربية بالترابط. لكنه لا يعيّن شروط رفع العقوبات. هل سوف تتم خلال مهلة الشهر الذى سوف تستغرقه مهمة المراقبين؟

 

يمكن التبيّنه من جهة أخرى إلى تبدل المتدخلين بين طارئ ومتراجع ومتقدم. ليس هذا بالأمر التفصيلى إذا ما لاحظنا تراجع دون قطر والعربية السعودية وتركيا وتقدم دور إيران والعراق. هى تطورات تحتاج إلى تفسير لعل الأيام الآتية تحمله. أخيرا، يبدو أن مهلة الأسابيع السبعة، بين قبول دمشق المبادرة العربية وتوقيعها بروتوكول المراقبين، لم تكن كافية لاستخدام المبادرة العربية غطاء لتحقيق انتصار عسكرى حاسم، بدا أن اقتحام حمص سوف يشكل تتويجا له. لا تفسير مقنعا حتى الآن لعدم تنفيذ تلك المهمة العسكرية التى جرى تسريبها إلى غير وسيلة إعلامية. الأمر المؤكد هو صمود أهالى حمص. اللهم إلا إذا أضيف إليها ما نمى عن تراجع عنها تم بناء على إنذار عسكرى أمريكى.

 

فى المسألة أمر آخر. منذ بداية الأزمة درج النظام السورى، وهو يعانى ما يعانيه من حالة إنكار مستفحلة، على تقديم الرواية الافتراضية تلو الأخرى عن أزمته. بعد أن افترض أن الشعب يحتاج إلى عقدين من الزمن ليتأهل للديمقراطية، وألحقه بافتراض آخر يقول إن سوريا ليست تونس ولا هى مصر، سادت رواية تنسب الأحداث إلى «المجموعات التخريبية المسلحة» إلى حين صدور قرار استبدال «قانون الطوارئ» بـ«قانون مكافحة الإرهاب». حينها اكتشف النظام ــ الذى يحاور الخارج ويتوجه اليه منذ البداية ــ إمكانية شبك روايته الافتراضية المحلية بعجلة الحرب الأمريكية المتعولمة «ضد الإرهاب». هكذا حلت رواية «المجموعات الإرهابية المسلحة» محل «المجموعات التخريبية المسلحة» بما هى الطرف الذى يعتدى على العسكريين وأجهزة الأمن حتى لا نقول إنه يعتدى على «الشبيحة» أيضا!

 

***

 

ظل النظام السورى يقمع ويعتقل ويعذّب ويسلّط الشبيحة على الناس ويأمر عناصره الأمنية والعسكرية بإطلاق النار على التظاهرات السلمية حتى لجأ البعض إلى السلاح للدفاع عن النفس وانشقت عناصر من الجيش رفضت الاستمرار فى إطلاق النار على المواطنين العزل. هنا كاد الحاكم المريب أن يقول خذونى. كأنه كان يستدعى ردود الأفعال تلك استدعاء. ها هو الان يستدعى المراقبين العرب ليشهدوا على روايته الافتراضية الجديدة: طالما انه يوجد عسكريون منشقون فذلك يعنى أن التظاهرات السلمية ليست سلمية بل هى مسلحة، ما يسوّغ بالتالى إطلاق النار عليها.

 

هل هى صدفة أن لا يكاد احد يكترث إلى الانتخابات البلدية التى جرت خلال الأسبوع المنصرم فى بلد يعيش حالة من الإضراب العام تسعى المعارضة إلى تصعيده نحو العصيان المدنى؟ أليست هذه عيّنة عن «الإصلاحات الشاملة» التى يعد بها النظام والمطبلون له فى الداخل والخارج؟ أخبرونا عن الأطراف والقوى المتنافسة. أعلمونا عن نسب الإقبال على الاقتراع التى فاقت التصور؟ نوّرونا عن الفائزين، فرادى وجماعات، وما الذى يحملونه من إصلاحات! أم أن هذه انتخابات تنتمى إلى العالم الافتراضى هى أيضا؟

 

ولكن ليت الأمر يتوقف عند هذا الحد.. الافتراضى. فمثلما غطى القبول بالمبادرة العربية على تصعيد القتل ومحاولة اقتحام حمص، كذلك كان يوم التوقيع على بروتوكول المراقبين من أحلك الايام التى عرفتها سوريا فى أزمتها الدموية، قضى فيه العشرات فى حملة على معاقل العسكريين المنشقين فى جبل الزاوية ومعهم العشرات من المدنيين فى عدة مدن وبلدات وقرى وضواحى وأحياء بما فيها أحياء دمشق الداخلية.

 

إلى هذا كله، سوف تستقبل دمشق الوفد العربى وقد أصدر رئيس الجمهورية قانونا يقضى بالإعدام أو المؤبد للمشاركين بـ«الإرهاب»، والتهمة تشمل مجرد توزيع السلاح.     

 

أين «حماية المدنيين العزل» فى مهمة مراقبى الجامعة العربية من كل هذا؟ يتحدث البعض فى معرض النقد عن «الحل الأمنى» فى سوريا. ما نحن شهود عليه هو «حل حربى» يقوم على معادلة النصر والهزيمة. هذه هى الحلقة المفرغة التى وضع النظام نفسه فيها وزج شعبه فى أتونها. فاقتضى التنبيه: أن منطق الحل الحربى يعنى الآن اعتبار المدنيين جزءا من المواجهة العسكرية بين نظام وشعبه.

لم يتغيّر شىء. هذه هى الممانعة: استخدام النظام كل الأدوار والعلاقات والقوى الخارجية للتحكم بشعبه والانتصار عليه. لا ممانعة فى جرّ أى طرف عربى وإقليمى وشرق أوسطى ودولى للتدخل فى الأزمة السورية، الا الشعب السورى ذاته.

 

الجديد أن هذا الشعب الحقيقى لم يعد لديه ما يخسره غير قيوده. لديه سوريا جديدة يكسبها ويبنيها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved