الشدّ إلى الوراء.. الشدّ إلى الأمام

امال قرامى
امال قرامى

آخر تحديث: الثلاثاء 24 ديسمبر 2013 - 8:00 ص بتوقيت القاهرة

تعيش مجتمعات «الحراك العربى» على وقع قوّتين تتدافعان بالتوازى: قوّة تشدّ إلى الوراء، وأخرى تدفع باتجاه الأمام. وإذا نظرنا إلى مختلف قوى الارتداد فإنّها بادية للعيان بما لا يدع مجالا للشكّ فى مدى قدرتها على اختراق كلّ المؤسسات والمجالات لعلّ أهمّها السياسى والاجتماعى والدينى.

وليست تونس بمعزل عن موجة الردّة التى تشهدها مصر وليبيا واليمن وغيرها من البلدان، ذلك أنّ علامات الشدّ إلى الوراء التى تنتجها فئات يحلو للبعض تسميتها بالأقليّة، أو بالخارجين عن السرب، باتت مرئية. وهى فئات تظهر كالفقاقيع هنا وهناك فى مناخ سمح للجميع بالبروز إلى السطح. وبعد أن كانت هذه الفئات المهمّشة تعيش فى القاع، تتفنّن فى ممارسة التقيّة ولعبة التخفّى ها هى اليوم، تطلّ علينا برءوسها وسيوفها وألسنتها وهيئاتها الهجينة وخطابها «الصادم».

هذا بائع خضار يتحوّل بقدرة قادر، إلى داعية إسلامى يمارس الزعامة الدينيّة وينصّب نفسه أب الخرفان الضالة المسئول عن العود بها إلى حظيرة الإسلام الحقّ، وعن تشكيل هوّياتها حتى تغدو ممثّلة للعباد الصالحين. وبعد أن ترأس جمعيّة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر ها هى السياسة تستهويه فيؤسس حزبا ليدعو الناس إلى الانخراط فيه لاسيما وهو حزب يضع فى أولى أولوياته تعدّد الزوجات، ومنع الاختلاط، والعودة بالنساء إلى البيوت.. مشروع بدأ يستهوى البعض ويحرّك هُواماتهم.

وذاك رجل أعمال يفتخر بأنّه اشترى عددا من نوّاب المجلس التأسيسى، وأنّه من دعاة زواج القاصرات، وختان البنات، وضدّ الاختلاط بين الجنسين، يُزبد ويُرعد كلّما ظهر فى قناة تلفزيّة علّه بذلك يكتسب شعبيّة أوسع فى زمن اختلط فيه الحابل بالنابل.

وذاك زعيم حزب سياسى يندّد بالديمقراطية، والعلمانية، مبشّرا الناس بعودة الخلافة فهى الحل الأوحد لمعالجة كل أدواء المجتمع من فقر وتهميش وفساد وغيرها. هنا مساجد ما فُتحت لعبادة الرحمان وإنّما حوّلت وظائفها لتغدو ركحا مسرحيّا يرتاده المرضى النفسيون طلبا للعلاج فيتولّى الإمام فكّ السحر، وطرد الأرواح الشريرة من الأجساد، أو تحريض الرجال على تأديب زوجاتهم أو تكفير الناشطين الحقوقيين والسياسيين والمثقفين والفنانين.

حول بصرك ترى مساجد باتت تستضيف دعاة الفكر الوهابى ليحرّضوا التونسيين على الاقتتال والتناحر، وأخرى تحولت إلى مخازن لتجميع السلاح، وأخرى تنقلب إلى ساحات للعراك. هذا خطيب يُمنع من اعتلاء المنبر لينصّب بدلا منه الخطيب الأكثر قدرة على تعبئة المصلّين، وذاك وذاك.. حدّث ولا حرج، فالأمثلة عديدة.

•••

يستغرب بعضهم مظاهر الارتداد فى القرن الواحد والعشرين فى بلد ظنّ الجميع أنّه بمنأى عن حركة مأسسة الجهل. ولكن دعونا نتذكّر.. ألم تنطلق «الثورات العربية» بعد عقد تقلّصت فيه مساحات التحرّر، وغابت فيه العقلنة، وتوارى فيه الفكر النقدى، واستفحلت فيه فتاوى رضاع الكبير، ومنع استعمال المرأة الأنترنت، ومنع الجلوس على كرسى جلست فيه امرأة.

بشّرت الثورات بحدوث التغيير المنشود ورفعت شعارات الكرامة والعدالة الاجتماعية والحريّة.. وخلنا أنّها الشعوب استيقظت من سباتها بعد أن بلغت الرشد ولكن سرعان ما خفت شعاع الأمل، وعاد القوم ليستأنفوا إنتاج الفتاوى المهينة للإنسان وليؤسسوا الجمعيّات والأحزاب التى لا تعبّر عن أحلام من قادوا الثورات وضحّوا بأنفسهم فى سبيل الوطن.

وبعد أن كانت ثورات سلميّة فى منتهى التحضّر وأنموذجا يقتدى به الغربيون ولا ينقطعون عن تحليل مقوّماته ها هى تتحول إلى مواجهات دمويّة يتفنن فيها القوم فى ممارسة العنف الوحشى.

•••

لا مفرّ من الاعتراف بأنّ ثورات لم تتموقع ضمن حركة معرفيّة شاملة ومتواصلة ترتقى بالإنسان وتؤنسه وتوفّر له كلّ الظروف ليرتقى بسلوكه ويطوّر إدراكه لا يمكن أن تفضى إلى تغيير هيكلى وأن تخلق مناخا سليما يسمح للفرد بأن يكتسب مواطنيته الكاملة وأن يستردّ كرامته المهدورة، غاية ما حدث أنّنا شعوب عادت إلى نقطة المنطلق: السقوط فى كافة تجلياته والجهل الممأسس فكان التغيير لحظة استثناء، لم يكتب له الاستمرار وقاد إلى الإحباط.

ولكن يبقى الأمل فى تشكّل ارهاصات تنمّ عن وجود قوى يمكن أن تدفع باتجاه التقدّم نلمسها فى مبادرات تطلقها مختلف مكونات المجتمع المدنى لممارسة الضغط حتى يحدث الإصلاح فيستقلّ القضاء وتصلح المؤسسة الأمنية وتراجع المنظومة التربوية والتعليمية وتكرّس الممارسة الديمقراطية وتتغيّر العقليات.. والقائمة طويلة والمسار يتطلّب صبرا جميلا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved