عك كونتيننتال

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 24 ديسمبر 2016 - 9:30 م بتوقيت القاهرة

الرجل كان معه سيجارة، لكن من دون كبريت. وقف على باب دكانه يرمق بحذر الداخل والخارج من ممر «الكونتننتل» الشهير بميدان الأوبرا وكل من تسول له نفسه التسرب إلى الفندق القديم الذى يحمل الاسم نفسه. هو مغلق كفندق منذ نهاية الثمانينيات، تحول لفترة إلى مبنى إدارى، وحاليا ينتظر الهدم بناء على رغبة الشركة العامة القابضة المالكة له «إيجوث»، بعد أن انهارت بعض أجزائه من الداخل وساءت حالة دورات المياه والبدرومات، كما قيل. أسفل الفندق والعمارة المجاورة له، وفى الممر الذى عرف باسمه كأول مركز تجارى قاهرى، تراصت محلات الملابس الجاهزة والأقمشة تسلم بعضها البعض إلى ما لا نهاية، بدلات ثم بدلات وبدلات، والحذر هو سيد الموقف.. فأصحاب البوتيكات ينتظرون ما الذى سيحدث لهم ويقاومون فكرة الإخلاء بضراوة، ومعهم ورش الترزية المنتشرة فى العمارة الملاصقة للفندق، والتى يصعب على الغرباء الفصل بينها وبين «اللوكاندة» التى تجاوز عمرها المئة وخمسين عاما.

قصاقيص القماش الملون التى تناثرت على سلم العمارة أو التى استقر بها الحال فى شكل كومات على الأرض، تضفى حياة على المكان وتجعل الأمور تبدو عادية، حتى بعد أن أفردت الصحف وخاصة «المصرى اليوم» عدة موضوعات حول هدم الفندق التاريخى المسجل ضمن المبانى ذات الطراز المعمارى المتميز، مع الاحتفاظ بالواجهة، ثم إعادة البناء بالطراز والشكل القديمين، بعد تأسيس شركة مساهمة لإقامة المشروع بتكلفة استثمارية تصل إلى 1,2 مليار جنيه. ومن المتوقع أن تستغرق أعمال الهدم والبناء نحو ثلاث سنوات، بالتالى فموقف تجار «الممر» مفهوم لأنهم لا يرغبون بالطبع فى تشتيت سبل عيشهم ويحاولون التشبث بذكريات المكان التاريخية قدر الإمكان.

***

تفاصيل إدارة أزمة الفندق منذ ثمانينيات القرن الفائت وحتى الآن، والنزاعات التى دارت بين محافظة القاهرة التى كانت لا ترغب فى الهدم بل تفضل الترميم والتنكيس وإزالة غرف بالسطح، كما تابعتها فى الصحف، وإصرار الشركة المالكة على بناء فندق جديد بعد تدمير الأول، ولجوئها إلى القضاء، والحالة التى وصل لها المبنى الذى يظهر متماسكا، صلبا، من الخارج، جميعها تفاصيل تبين كيف يتم التعامل مع تراث مصر المعمارى، وربما مع تراثها عموما: كيف نديره، كيف نهمله ونتلفه، ثم نبكى أو يبكى بعضنا فقط على أطلاله، بعد فوات الأوان؟

تاريخ المبنى معروف، وحجمه الذى لا تخطئه العين يجعل من الصعب أن يتجاهله أحد، فهو يمتد على مساحة عشرة آلاف متر مربع ويطل على ميدان الأوبرا وشارعى عدلى و26 يوليو، فكيف ترك لينهار وتتسرب مياه الصرف الصحى إلى جدرانه؟ لماذا لم يتم الترويج له منذ سنوات مضت، ولم يحسن الاستفادة منه؟ طاله حريق القاهرة عام 1952 وكان ضمن المبانى القديمة التى تأثرث بزلزال 1992، وكأن المبنى كان يذكرنا بحاله، دون جدوى. حتى فى ظل الحماسة التى أظهرها البعض تجاه مبانى وسط القاهرة الخديوية وفى ظل حالة النوستالجيا التى انتابت الكثيرون وجعلتهم يحتفون بالبنايات والصور القديمة، سقط فندق الكونتيننتال سهوا أو عمدا من ذاكرة المدينة التى نفقدها يوما تلو الآخر.

***

وأنت تقف أعلى العمارة المجاورة للفندق المغلق، تنظر إلى سطحه وغرفه وبلكوناته، تود أن تعيش هنا لفترة، أن تنزل فى إحدى الغرف التى تطل على حديقة الأزبكية، أن تجلس على التراس القديم أو أن يفتح الباب على مصراعيه فتقابل أعضاء البرلمان الذين اجتمعوا على التراس بعد أن حله الملك فؤاد سنة 1924، عقب استقالة سعد زغلول من رئاسة الوزارة. كان هذا الأخير ضمن نزلاء الفندق وكذلك خليفته فى الوزارة أحمد زيور باشا، رئيس الحكومة المفرط فى البدانة والطيب القلب والضاحك دائما. تود لو قابلت هؤلاء الأشخاص، لو عشت أجواء الترف والسياسة كما وصفها الكاتب أحمد محفوظ فى «خبايا القاهرة» (عن دار الشروق)، عندما روى كيف كانت عامة حفلات الأحزاب تقام فى هذا الفندق: الوفد والأحرار الدستوريين والاتحاد، كيف خطب فيه سعد زغلول وعدلى يكن وحسين رشدى وعلى ماهر وحسين هيكل وعبدالعزيز فهمى وأحمد لطفى السيد وغيرهم. وفى هذا الفندق أيضا انعقد البرلمان المصرى وائتلفت الأحزاب، وهو ما عجز تحقيقه فى أماكن أخرى، كما كان يجتمع فيه العرب الوافدون لاجتماعات الجامعة العربية. ويعلق الكاتب: «وعلى الجملة فقد كان هذا الفندق مجتمعا للساسة المصريين من جميع الأحزاب حتى هدم سنة 1950 وتغير حاله، وأعيد ثانية مقصوص الأجنحة»، وهو الذى يرجع بناؤه إلى نهاية القرن التاسع عشر وقيل ضمن ما قيل إنه شيد بالقرب من دار الأوبرا القديمة، بالتزامن مع افتتاح قناة السويس. وذكر أيضا أنه تم الإعلان فيه عن الاستقلال المبدئى لمصر وإلغاء الحماية البريطانية، وعن تحويل مصر من سلطنة إلى مملكة فى عهد أحمد فؤاد الأول. وكان ضمن نزلائه لورانس العرب وممول عمليات التنقيب عن مقبرة توت عنخ آمون، عام 1914، اللورد كارنارفون.

تاريخ زاخر وحافل بالأحداث والمعلومات والذكريات ولم يخطر ببال أحد من القائمين عليه أن يستثمره سياحيا كالعديد من الفنادق الأخرى التى تتهاوى جدرانها كل يوم. ألم يفكر المسئولون عنه للحظة أن هناك من هو على استعداد أن يدفع مبلغا وقدره مقابل ليلة فى حضن الذكريات؟ ألم يروا كيف يتم تجديد مثل هذه البنايات القديمة فى الغرب وكيف يتم استرجاع شكلها وزهوها السابق؟ كتب علينا العك، وصار «كونتيننتال» أى على مستوى القارة، وتجاوزنا نحن والقارات المجاورة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved