«هناك حيث ينتهى النهر».. عن بحور الخيبات

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: السبت 24 ديسمبر 2022 - 8:10 م بتوقيت القاهرة

مفاجأة سارة تمثلها هذه الرواية بالنسبة لى، فهذه أول رواية لمؤلفتها الشابة، ومع ذلك تبدو عملًا ناضجًا، قويا وذكيا ومؤثرا، يمكن أن نضعه باطمئنان بين أفضل روايات 2022.
الرواية الصادرة عن دار الكتب خان بعنوان «هناك حيث ينتهى النهر»، ومؤلفتها مريم عبدالعزيز، التى أصدرت من قبل مجموعة قصصية فى العام 2016 بعنوان «من مقام راحة الأرواحس، وهذا كتابها الثانى، الذى يكشف عن موهبة حقيقية، لديها القدرة على السرد المتدفق، فى إطار فكرة محورية، لا تفلت منها، ولا تأخذها بعيدا، ولديها كذلك القدرة على تقديم نماذج إنسانية تبقى طويلا فى الذاكرة.
المميز حقا فى هذا النص أنه يرسم بورتريها لحالة عامة، بقدر ما يقدم بناء متماسكا، حيث تنتقل مؤلفته ببراعة من دائرة خاصة، إلى دوائر أوسع فأوسع، يتم ذلك دون افتعال أو تعسف، لنكتشف أن مريم لم تسرد فقط حكاية بطلتها سلمى، ولا مدينة القاهرة التى عاشت فيها، ولكنها تحكى أيضا عن الإسكندرية ورشيد، وعن جميلة وأم بطة، وعن حامد ومصطفى، بل إنها تحكى عن أجيال أقدم، عن صابر والد سلمى، وعن تغريبة داخل الوطن كله، وعن محاولات فاشلة للنجاة.
يجمع هذه الشخصيات، وتلك الانتقالات من القاهرة إلى الإسكندرية إلى رشيد، تنويعات على نغمة الخيبة والهزيمة.
ليست فقط خيبات النساء، وهن فى قلب الصورة، ولا مجرد بورتريهات لنسوة تعانين، وتتكاتفن معا فى مواجهة حظوظهن البائسة، ولكن الرواية تتحدث أيضا عن اختيارات الرجال الصعبة، ومعاناتهم القاسية، وإحباطاتهم التى لا تقل ألما أو قسوة.
وإذا كان الحدث المحورى هو بحث سلمى، الصحفية القاهرية، عن قبر أبيها، الذى أخذته عائلته عند موته، ودفنته فى مدينته رشيد، فإن رحلة البحث هذه، ستفتح أمام مريم، وأمامنا، قبورا أخرى غير متوقعة، وستضعها أمام قصص الهجرة غير الشرعية عبر البحر، لتكتشف شخصيات تنتظر وتبحث مثلها، ولتدرك أن الهزيمة والخيبة قد طالت الجميع.
مفاتيح الرحلة يمكن أن تجدها فى كلمات مثل: البحر، السفر، الفراق، الموت، البحث، الغرق.
الشخصيات كلها تتذوق طعم هذه الكلمات، وليست سلمى وحدها، والطعم المالح، سينتقل فى النهاية من البحر إلى ماء النيل العذب.
تستعين الكاتبة بصوتين يحكيان بضمير المتكلم، هما سلمى، وحامد، مدرس التاريخ فى رشيد، ويكمل الراوى العليم الفجوات، ولكن هناك ما هو أكثر فنية من تنوع الأصوات، إنها فكرة الحكاية المحورية، وهى قصة سلمى، التى تتفرع إلى قصص فى كل الاتجاهات.
فالصدفة التى جعلت سلمى صديقة لكل من جميلة وأم بطة، تفتح على قصة السيدتين، والقصتان تفتحان على عالم الذين ركبوا قوارب الهجرة، فلم يعودوا، ولم يعرف مصيرهم، وهذه القوارب تفتح بدورها على قصة حامد مدرس التاريخ، وعلى قصة الريس مصطفى، شقيق جميلة، بل إنها تفتح على قصص مهاجرين غير مصريين، مثل إدريس الإريترى، صديق حامد، وأسرة مها السورية، صديقة جميلة.
يتيح هذا البناء الانتقال من دائرة محدودة، هى دائرة سلمى وأسرتها ووالدها، إلى دائرة واسعة بحجم جدارية كبيرة، بل إنه يتيح أن نقرأ الحكاية بأنها فقد شخصى، وخيبة فردية، تكشف عن فقد عام، وخيبات جماعية.
الجميل حقا أن المؤلفة تدرك ذلك، فتتردد فكرة الوطن بصراحة داخل النص، وتتأمل سلمى تماثيل قصر النيل، وتمثال سعد زغلول فى الإسكندرية، وتمثال نهضة مصر أمام الجامعة، وتمنح هذه التماثيل انتقادات ذات دلالة، تعيد تفكيك معنى الخيبة، وألم الخذلان.
يبدو بوضوح أن المدن تدفن أحلام سكانها، وأن هناك موتى كثيرين بلا قبور، وموتى على قيد الحياة، ومن لم يأكله السمك فى البحر، يلتهمه اليأس والحزن والانتظار.
خيبة سلمى العاطفية، تعمقها خيبة جميلة وانتظارها لخطيبها، الذى عبر البحر فلم يعد، ومعركة حامد العبثية لمنع تسرب التلاميذ من التعليم، ومنعهم من السفر عبر قوارب الهجرة، توسع كثيرا صورة الصراع، وبذلك تخرج سلمى من حجرة البيت، لترى أبعادا أكبر وأعمق، فتنسى حكاية قبر والدها أمام هذه الحالة العامة المضطربة.
تصبح جميلة أختا بديلة، وتبدو أم مريم أما بديلة، حتى خيبة الأب صابر، الذى لم يستطع، رغم العمل فى الخليج، أن يحصل على شقة لائقة، تبدو جزءا من الصورة العامة، وليست منفصلة عنها، وكأن مشكلة سلمى تنعكس على مرآة مشاكل أكبر، وكأن المدينة الطاردة واللامبالية تتكرر بلا نهاية، وهو تكرار لا سبيل إيقافه، رغم كل المحاولات، ورغم التحايل من أجل ترويض الواقع.
بسبب هذه الدوائر المتداخلة، تؤثر كل حكاية بمفردها، مثلما تؤثر الرواية بكل حكاياتها معا، وخصوصا مع مأساة الصفحات الأخيرة، ومع معرفة مصير جميلة، وعثور أم مريم على حل ينقذها من الانتظار، ومع لقاء سلمى مع حامد، المفتوح بدوره على قصص قادمة لا تنتهى.
ربما كان يمكن ضبط مساحة كل لوحة سردية، ذاتية أو موضوعية، بشكل أكثر توازنا، وربما كان يمكن التعريف بلقاء سلمى مع جميلة وأم مريم، بطريقة أكثر بساطة، ولكن النص لم يفقد قوته، ولم تفقد الشخصيات حضورها وتأثيرها، رغم كثرتها، كما أن الخطوط لم تتباعد، وإنما انتظمت فى النهاية فى مسار واحد.
يبدو لى أن بحر الخيبات هو مفتاح الرحلة، وليس البحر المتوسط، وأن الغربة فى الوطن، هى سبب رحلات الغرق والاغتراب، وأن حفيدات إيزيس ما زلن تبحثن عن الأجساد المفقودة، بينما يبدو حامد وأمثاله مثقلين بالذنب، وبالحلم الذى لم يتحقق، لا هم قادرون على التغيير، ولا هم قادرون على الفرجة.
أما عنوان النص فينقلنا بدوره من رومانسية مفترضة، إلى واقعية صادمة تجعلنا نتساءل: متى ينتهى هذا الحزن؟
هذه رواية تستحق الجوائز، وتنبئ بمولد كاتبة هامة اسمها مريم عبدالعزيز.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved