جدل الحدث التونسى وأجراسه

فهمي هويدي
فهمي هويدي

آخر تحديث: الثلاثاء 25 يناير 2011 - 10:09 ص بتوقيت القاهرة

نُعذر إذا لم نستطع أن نغادر الحدث التونسى، ليس فقط لأنه استثنائى وتاريخى فى العالم العربى، وليس فقط لأنه أحيا فينا أملا ظننا أن تحقيقه يحتاج إلى معجزة، ولكن أيضا لأن تفاعلاته المثيرة مستمرة منذ أكثر من شهر ورسائله تتدفق بغير انقطاع وأجراسه ترن طوال الوقت.

(1)

حتى الآن الشارع هو البطل الحقيقى، هو الذى أطلق الثورة، وهو الذى أجهض محاولة الالتفاف عليها، وهو الذى لايزال مصرا على تحدى الحزب الذى احتكر السلطة واختطف البلاد بعد زوال الاحتلال الفرنسى فى عام 1956.

أما كيف أطلق الثورة فقد بات ذلك معلوما لدى الكافة. أما قطعه الطريق على محاولة الالتفاف على الثورة واختطافها بدورها. فقد تبدى حين خرجت الجماهير معربة عن غضبها بعد إعلان تشكيل الحكومة، التى ظل على رأسها أحد رجال نظام بن على، فى حين استولى رجال الرئيس وأعضاء حزب التجمع الدستورى الحاكم على الوزارات السيادية فيها (الداخلية والدفاع والمالية والخارجية)، الأمر الذى جاء مؤكدا على أن الديكتاتور رحل حقا لكن نظامه ثابت القدم كما هو.

الجماهير لم تنطلِ عليها الحيلة. ولم تقتنع بأن رحيل الديكتاتور وتشكيل حكومة جديدة تضم بعض قيادات المعارضة المدجنة يعنى طى صفحة الديكتاتورية. ولم تصدق شعار القطيعة مع الماضى الذى رفعه رئيس الوزراء وآخرون من قيادات التجمع الدستورى. وسمعنا أناسا عاديين يقولون لمراسلى الفضائيات العربية إنه لا يعقل أن يكون أعوان الطاغية وأركان الاستبداد أنفسهم دعائم الانتقال إلى المرحلة الديمقراطية، وأن القطيعة الحقيقية يجب أن تتم مع الحزب الفاشى الذى ظل ركيزة النظام الديكتاتورى طوال العقود التى خلت.

غضبت الجماهير لمجرد وجود ممثلى الحزب الدستورى فى الحكومة. وكان مطلبها صريحا فى ضرورة إخراجهم منها. وعبرت عن ذلك المطلب بطرق سلمية ومتحضرة. فبقيت فى الشارع لم تغادره. واحتل بعضهم عددا من مقار الحزب وانتزعوا لافتاته. وفى بلدان أخرى فإن هذه الرسالة كانت توجه بأساليب أخرى، عبر إسالة الدماء والفتك برموز القمع والاستبداد. لكن ذلك لم يحدث، وإنما مارس ذلك الحضور ضغطا قويا على النقابات والقوى الوطنية، التى تبنت مطالب الجماهير الواقفة فى الشارع. وكانت استقالة أربعة من الوزراء يمثلون التيار الوطنى عنصرا ضاغطا أسهم فى إحراج الحكومة واهتزاز صورتها. وحتى كتابة هذه السطور فإن مأزق الحكومة لايزال مستمرا. حيث الجماهير مازالت تعرب عن احتجاجها فى الشارع. والحزب الدستورى يخوض معركته الأخيرة فى الدفاع عن هيمنته وسلطانه.

(2)

إذا كنا قد رأينا مشهد الشارع كاملا، فإنه لم يتح لنا أن نتابع ما يجرى فى السراديب لست أعنى ما يحيكه أركان نظام بن على من حيل وألاعيب للحفاظ على قبضته، ولكن أعنى دور القوى الخارجية التى فوجئت بما جرى وأقلقها السقوط السريع للنظام، وما يمكن أن يترتب على ذلك فى المستقبل. إذاً ليس سرا أن ثمة تنافسا صامتا بين الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا حول النفوذ فى دول المغرب العربى. وهذا التنافس مشهود فى جميع تلك الدول بغير استثناء. إذ لكل منهما رجاله وأدواته. خصوصا فى أوساط القوات المسلحة، التى تعد على رأس قوى التغيير والتأثير. إذ يتحدث المتابعون للشأن الموريتانى مثلا عن أن فرنسا كانت وراء سيطرة الرئيس الحالى على السلطة، ويشيرون إلى أن بعض قوى المعارضة لجأوا إلى الولايات المتحدة لمقاومة نظامه. وليس سرا أن الولايات المتحدة كانت وراء استيلاء « زين العابدين بن على» على السلطة فى تونس عام 1987. لكن فرنسا لم تغب مع ذلك عن الساحة. وقد بات معروفا أن وزيرة الخارجية الفرنسية ميشيل اليومارى عرضت تدريب الشرطة التونسية فى بداية الانتفاضة لقمع المتظاهرين. وتحدثت وسائل الإعلام عن اتصالات ملحة كان يجريها أثناء الثورة النائب اليمينى الفرنسى إريك راءول بالنظام السابق للتحذير من إتاحة الفرصة للإسلاميين فى ظل الوضع المستجد. أيضا لم تغب الولايات المتحدة عن متابعة المشهد، ففى حين أعرب الرئيس أوباما عن تقديره لشجاعة الشعب التونسى، فإن كبير مستشاريه الأمنيين سارع إلى الذهاب إلى الجزائر لكى يكون قريبا من الأحداث فى تونس، وقيل إنه نقل رسالة أيدت إجراء انتخابات حرة ونزيهة هناك، مشترطا عدم تمكين الإسلاميين من الوصول إلى السلطة.


(3)

أصبحت مشاركة الإسلاميين فى العمل السياسى أحد العناوين المثيرة للغط، محليا وإقليميا ودوليا. والإسلاميون المعنيون هم بالدرجة الأولى حركة النهضة (أول مكتب سياسى لها تشكل فى عام 1981)، ويقودها الشيخ راشد الغنوشى الذى اختار لندن منفى له.

أما كوادر الحركة فقد توزعوا بين المنافى والسجون التونسية. والذين تابعوا أدبيات ومواقف الحركة منذ إنشائها أدركوا فى وقت مبكر أنها قدمت نموذجا فكريا منفتحا ومتقدما على كثير من الحركات الأخرى. وهذا النموذج كان ملهما لحزب العدالة والتنمية الذى تشكل بالمغرب فى وقت لاحق، وهو الاسم الذى اقتبسه الفريق الذى خرج من عباءة حزب الرفاه الإسلامى فى تركيا تحت قيادة الأستاذ نجم الدين أربكان، وشكلوا فى عام 2000 حزبا بذات الاسم الذى عرف فى المغرب. وكان فى مقدمة قادته عبدالله جول رئيس الجمهورية الحالى ورجب طيب أردوغان رئيس الوزراء.

فى تونس ــ كما فى مصر ــ كان هناك حزب مهيمن وأحزاب أخرى محظوظة ومرضى عنها، وظلت تستخدم فى إحكام الديكور الديمقراطى، وأحزاب أخرى محظورة ليس مرضيا عنها كان بينها حزب النهضة والحزب الشيوعى، وأحزاب معارضة أخرى. ولأن النظام كان علمانيا قحًا، فإنه استقطب المتطرفين من العلمانيين والشيوعيين، الذين كانوا ولايزالوا فى الوقت الراهن يدعون إلى إقصاء حزب النهضة ويخوفون من العودة المرتقبة للشيخ راشد الغنوشى من لندن.

هذه الدوائر عبرت عن مخاوفها حين قررت الحكومة التونسية فتح الأبواب على مصاريعها للتعددية الحزبية، كما أطلقت سراح المعتقلين والمسجونين السياسيين، وأعدت مشروعا للعفو عن المحكوم عليهم ومنهم المقيمون فى المنافى، مما يعنى إضفاء الشرعية القانونية على نشاط الأحزاب المحظورة، وفى المقدمة منها حركة النهضة والحزب الشيوعى. إلا أن حركة النهضة لاتزال الوحيدة التى تقف فى حلق الجميع. من نظام زين العابدين بن على إلى المتطرفين من العلمانيين والشيوعيين، إلى الفرنسيين والأمريكان والإسرائيليين.

دعوة استثناء «النهضة» تتعذر الاستجابة إليها من جانب الحكومة الجديدة، أولا لأن حركة النهضة قدمت طوال الوقت نموذجا فكريا وسياسيا وسطيا ومعتدلا للغاية، وثانيا لأنها ظلت طوال عهد بن على تتحرك فى إطار تحالف وطنى مع الأحزاب الأخرى التى اطمأنت إليها ووثقت فى مواقفها وهو ما دعا عقلاء العلمانيين والشوعيين إلى المطالبة بعدم استثنائها. وثالثا لأنه كان من الصعب على حكومة وعدت بإطلاق الحريات والالتزام بقيم الديمقراطية أن تجيز كل الأحزاب فى حين تستمر فى حظر حركة النهضة وإقصائها.

ما يثير الانتباه فى التوافق بين تلك الأطراف على المطالبة بحظر النهضة ــ أنها فى هذا الموضوع بالذات تناست تناقضاتها، واعتبرت أن تناقضها الرئيسى مع الحركة، ولم يعرف ما إذا كان ذلك تصفية لحسابات أو دفاعا عن الذات، أو غيرة على مصالح غربية وإسرائيلية يمكن أن يتهددها وجود حزب إسلامى فى الساحة السياسية. يثير الانتباه أيضا أن الأطراف المختلفة دأبت على التخويف من تحول النهضة إلى نموذج لطالبان و استنساخ للنظام الإيرانى. ولم يخطر على بال أحد أن يراجع سجلها ليدرك أنها أقرب فى عقلها السياسى إلى حزب العدالة والتنمية فى تركيا.

(4)

اللغط مثار أيضا حول عنوانين آخرين، أولهما يتعلق بعبرة ما جرى فى تونس، والثانى حول القواسم المشتركة بين الوضع التونسى وبين نظائره فى العالم العربى.

العنوان الأول أفاض فيه كثيرون ممن اجتهدوا فى قراءة الحدث واستخلاص دروسه التى يتعين على الآخرين استيعابها وليس لدىَّ ما أضيفه إلى تلك الخلاصات، إلا أننى لا أستطيع أن أقاوم التذكير بعدة رسائل تلقيناها من الحدث التونسى تتمثل فيما يلى:

● أن منظر الرئيس بن على فى آخر خطاب له يقنعنا بأن الطغاة والمستبدين ليسوا بالقوة التى نتصورها. إذ نبهنا إلى أنهم أقوياء فقط بسلاح الجند الذى يحرسهم وأجهزة القمع التى تسحق معارضيهم. فيما عدا ذلك فهم مهزومون ومتخاذلون. وإذا كان المشهد التونسى قد بين لنا أنهم أضعف مما نتصور، فإنه أيضا أكد لنا أن الشعوب أقوى مما تتصور.

● إن احتكار السلطة حين يتحول إلى هدف بحد ذاته، فإنه يدفع المستبد إلى القبول بالتلون والتقلب بين مختلف المبادئ والاتجاهات، طالما كفل له ذلك أن يبقى فى موقعه. إذ يبدى استعدادا للانتقال من الديكتاتورية إلى الديمقراطية والليبرالية ولا مانع لديه من التحول إلى الثيوقراطية، ومن القومية إلى الكونية والقطرية، ومن النقيض إلى النقيض. وليس مهما الثمن الذى يدفع أو ما يستصحبه ذلك من مهانة. لأن الأهم أن يؤدى إلى تثبيت البقاء فى المنصب واستمرار القبض على هيلمان الملك.

● إن الحديث عن الرخاء، والنمو الاقتصادى لا ينبغى الترحيب به إلا إذا عرفنا من المستفيد منه، وهل تذهب عائداته إلى الذين اختطفوا البلد وسرقوه، أم إلى أصحاب البلد وشعبه الكادح. وما جرى فى تونس يفتح أعيننا على تلك الحقيقة، لأننا اكتشفنا أن «معجزته الاقتصادية» التى تحدث عنها الرئيس السابق جاك شيراك جنى ثمارها الأثرياء وأفراد العصابة الحاكمة، وكان الفتات هو نصيب المجتمع وحظه.

●إن أجهزة الأمن حين تتوحد مع النظام المستبد وتصبح سوطه وسجانه ويده الباطشة، تتحول من مؤسسة تحرس المجتمع وتسهر على أمنه إلى مؤسسة تسحق المجتمع وتعاديه. وحين أحرق المتظاهرون فى تونس غطاء رأس لضابط الشرطة، وحين تظاهروا أمام وزارة الداخلية، فإنهم كانوا يعبرون عن شعور المرارة والسخط إزاء الدور القذر الذى قام به رجال الشرطة لصالح النظام. ومن الواضح أنهم أدركوا أخيرا مدى رفض الناس لهم، حتى إنهم خرجوا فى مظاهرات بالعاصمة حملت لافتات تقول: أبرياء أبرياء من دم الشهداء.

● إن الأنظمة السلطوية حين تمعن فى إحكام الانسداد السياسى وتغلق أفق المستقبل فى وجوه الجميع، فإن لغة الشارع وخروج الجماهير إليه تصبح الخيار الوحيد أمام الضائقين بالاستبداد، والراغبين فى تخليص المجتمع من براثنه. وأية تداعيات تترتب على ذلك يتحمل مسئوليتها الذين صنعوا الأزمة وليس ضحاياها.

الذين يرفضون الاعتبار من الحدث، ومن ثم يرفضون تسلم رسائله، هم أنفسهم الذين ما برحوا يروجون للزعم القائل بأن تونس حالة خاصة ليس لها مثيل فى العالم العربى، ليطمئنوا أنفسهم على مصيرهم، وإن ادعوا أنهم يطمئنون الناس والنظام. وهو زعم انتقدته فى موضع آخر. ولاحظت أن كتابات الصحف القومية فى مصر هى الوحيدة التى تتبناه وتروج له، فى حين أن الإعلام الخارجى يعتبر أن التشابه مع مصر بالذات أمر مفروغ منه ومسلم به. وحين سألنى أحد المراسلين الأمريكيين عن أوجه الشبه بين مصر وتونس والجزائر. قلت إن بينها أربعة قواسم مشتركة على الأقل هى: استمرار احتكار السلطة ــ انتشار الفساد ــ التغريب وفقدان الهوية ــ الدوران فى فلك السياسة الأمريكية. وهى أمور يطول فيها الحديث ويضيق بها المكان.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved