يناير.. بين الغضب والاحتجاج والثورة

إبراهيم عوض
إبراهيم عوض

آخر تحديث: الإثنين 26 يناير 2015 - 10:45 ص بتوقيت القاهرة

اللغة ليست فقط وسيلة للتعبير، بل هى أولا أداة التفكير. المفردات التى تعرفها وفهمك لها هى التى تعينك على التفكير. فى اللغة العربية للفظ «الثورة» معنى ليس موجودا باللغات الأجنبية المعروفة لدى عموم المصريين. الفرد «تثور أعصابه»، وهو «ثائر» على أحواله البائسة. «الثورة» بهذا المعنى هى تنفيس عن الغضب وتعبير عن الاحتجاج على ما أدى بالفرد إلى أن تثور أعصابه أو إلى أن يثور على أحواله البائسة. ولكن «الثورة» فى السياسة وفى حياة المجتمعات هى هزّ لبناها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية وإعادة لصياغتها. هذا هو ما يفسر أن يقول الكثيرون أن يوليو جمّعت غضب المصريين عند منتصف القرن العشرين فى شكل انقلاب على النظام الملكى، ولكنه فى السنوات العشر التالية أصبح ثورة حقيقية بالتغييرات العميقة التى أدخلها على البنى الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية فى مصر، وأيا كان رأى هؤلاء وأولئك فى هذه التغييرات.

«الثورة» فى المخيلة المصرية والعربية ترتبط بالعصبية والغضب، وربما كان هذا ما يفسر تعابير التجهم وارتفاع الصوت لدى الكثيرين من «الثوار». يحق للمرء أن يتساءل إن كان ماو تسى تونج، مثلا، قد قاد الثورة الصينية بعصبية، أو حتى بمجرد الغضب والاحتجاج على أحوال الصين، أم أنه خاض ثورته الطويلة بتأمل فى كيفية تبديل هذه الأحوال وبتفكير فى العلاقات التى يراد أن تسود بين أبناء الصين غداة اقتلاع السلطة السياسية فيها.

الشعور بالإهانة من «مشروع التوريث»، وبالغضب من احتكار السلطة السياسية والاقتصادية ومن الآثار الاجتماعية لهذا الاحتكار، تجمّع فى مصر فى السنوات العشر السابقة على انفجار يناير. هذا الانفجار كانت له مقدمات، من نشأة «حركة كفاية» إلى مختلف المجموعات المناهضة «للتوريث»، مرورا بإضرابات العمال وخاصة فى المحلة الكبرى، وبحركة 9 مارس لأساتذة جامعة القاهرة، وبنشأة النقابات المستقلة، وبالاعتصامات على الرصيف المقابل لمقر مجلس الوزراء. هذه المقدمات تكفى وتزيد لدحض فكرة المؤامرة التى يقول بعض المناهضين ليناير أنها حيكت ضد مصر فى شكل الرئيس الأسبق حسنى مبارك ونظامه. هل يمكن أن تكون المؤامرة قد امتدت لعقد كامل واشترك فيها كل هؤلاء المصريين الآتين من خلفيات اجتماعية وثقافية واقتصادية مختلفة؟

•••

فى يناير، فى مختلف المدن المصرية ومنها القاهرة، فى ميدان التحرير الذى صار صورة الثورة فى العالم أجمع، تجمّع الغاضبون من الخلفيات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية المتباينة المشار إليها، ووقفوا أو جلسوا جنبا إلى جنب وتحادثوا ربما لأول مرة فى حياة كل منهم، معلنين بهذا عن احتجاجه على بؤس أحواله الاقتصادية وذاك على تهميشه وازدرائه سياسيا، والثالث على القيم التى تحكم المجتمع والهوة متزايدة الاتساع بين المواطنين والتى تهدد التماسك المجتمعى. عندما أدركوا أن الاحتجاج يثير مسائل اقتصادية واجتماعية وسياسية، شارك المواطنون الأقباط فى الاحتجاجات مقدِمين انتماءهم الوطنى على خصوصيتهم الدينية فكان فى ذلك وعد كبير بإعادة اللحمة إلى المجتمع ورتق فتق عقود من الفرز الطائفى. فى ميدان التحرير، شاركت النساء فى الاحتجاجات كنساء وكمواطنات كما لم يشاركن فى النشاط السياسى منذ السبعينيات من القرن الماضى. فى ميدان التحرير انعكس تعدد المجتمع المصرى واستعداد الغاضبين والمحتجين لأن يتعايشوا وأن يستوعبوا هذا التعدد فى نظام سياسى يرتِب الأولويات بين أسباب احتجاجهم ويعمل على علاجها، هذه فى وقت واحد وتلك تباعا.

ولكن الغاضبين فى السنوات العشر السابقة كانوا قد اكتفوا بالتعبير عن غضبهم ورفضهم لميل أحوالهم. بالتأكيد كان لدى الغاضبين أفكارهم وقيمهم، ولكنها كانت ضمنية أو متناثرة. لم يلتفت أحد من المجموعات المذكورة أعلاه أو من أعضائها إلى ضرورة اقتراح مشروع لنظام سياسى واقتصادى واجتماعى تدور المناقشة حوله ويعبئ المؤيدين والمناصرين له. إنشاء هذا النظام هو الثورة ونتاجها. للأمانة التاريخية، تجدر الإشارة إلى أن مثقفا مصريا واحدا، هو المرحوم الدكتور إبراهيم شحاتة تناول فى النصف الثانى من تسعينيات القرن الماضى موضوع النظام السياسى المنشود فى كتابه «وصيتي لبلادى»، وهو تناول يمكن الاتفاق مع بعضه والاختلاف مع بعضه الآخر، ولكن ميزته فى وجوده وفى خوض موضوع النظام السياسى البديل.

•••

كثيرا ما يقال إن الشباب الذى أشعل فتيل يناير لم يكن حريصا ولا هو رغب فى تولى السلطة السياسية. ويتردد كذلك أن يناير كانت بلا زعامة حقيقية. كيف يمكن أن تسعى إلى السلطة أو تمارس زعامة بدون مشروع سياسى؟ سعد زغلول كان له مشروعه، استفاد من التحديث الاقتصادى ومن لقاء العالم الذى بدأه محمد على وبنى عليه اسماعيل، وأضاف إليه تحديثا سياسيا. جمال عبدالناصر كان له مشروعه الذى خرج على مشروع سعد وبنى عليه وعلى التحديث الذى ورثه عن محمد على وإسماعيل فى الوقت ذاته.

لذلك ربما لا يكون غريبا أن «الإخوان المسلمين» هم الذين استفادوا من غضب الشعب واحتجاجاته فى يناير وأسرعوا بمحاولة تحويلها إلى «ثورة إسلامية»، تودى خصوصا بالقيم المشتركة التى وصلت محمد على بجمال عبدالناصر، بعبارة أخرى تودى بقيم التحديث، وساعدهم على ذلك أن التحديث كان منقوصا وأنه قصر عن تحقيق جانب كبير من أهدافه. لم يكن لدى «الإخوان» فكر شامل متماسك عن النظام السياسى الذى أرادوا بناءه ولا عن كيفية مواجهة معضلات الحكم فى العالم الحديث، ولكنهم غفلوا عن ذلك أو أملوا فى أن يكون ما لديهم كافيا للبدء فى تحقيق أهدافهم. سقوط «الإخوان» يرجع أساسا إلى استهانتهم بقيم الحداثة وبتطور المجتمع الصرى، ثم إلى قصورهم عن تطوير أفكارهم ليستطيعوا ممارسة الحكم فى القرن الحادى والعشرين.

•••

هل انتهت «الثورة» التى اشتعلت فى يناير 2011؟ بعد قرنين وربع القرن من الزمان لم يخمد تماما النقاش حول الثورة الفرنسية، ومصطلحات الثورة الفرنسية ومفاهيمها مازالت متداولة، وهو ما يعنى أن الثورة الاجتماعية والسياسية الأولى لم تمت. إن ماتت الثورة، أى ثورة، فإن الحياة تبعث من جديد فى أسبابها.

لكى تنجح أى ثورة فى تحقيق مبغاها لا بد لها من مشروع للنظام السياسى المنشود. «ثورة» يناير كانت من أجل الحرية بشكليها السياسى والمدنى؛ ومن أجل الكرامة، وهى تعنى المشاركة السياسية، وشرعية الاختلاف مع السلطة، والتعدد، وعدم التمييز بين المواطنين والمواطنات؛ ومن أجل العدالة الاجتماعية التى تحيل إلى رفع مستوى المعيشة، وتلبية احتياجات المواطنين، وتوزيع أكثر إنصافا للموارد عليهم.

نجاح «ثورة يناير» رهين بتطوير مشروع لنظام سياسى يحقق الأهداف المذكورة. هذا دور للحركة السياسية المدنية الديمقراطية وللحركة الفكرية فى مصر. والحركتان قادرتان عليه.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved