اليوم «الفري»

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 25 يناير 2018 - 10:50 م بتوقيت القاهرة

وقفت صاحبتُنا أمام المرآة وتفحصت صورتها من قمة رأسها إلي أخمص قدميها ثم هاتفت نفسها بصوت خفيض : لم يعد ثمة مفر من الدايت. اكتنز عنقها قليلا ففقدت هذه المزية التي ميزتها في صباها حين كان يتدلى فرع الفل شاهق البياض من رقبتها فتبدو معه كما لو كانت " مانوكان " تعرض عقدا من اللؤلؤ الحر الثمين. اتسعت دائرة خصرها قليلا وهي التي كانت تشد عليه الحزام شدّا فيعطي الانطباع بأنه حدٌ فاصل بين البلوزة الشيفون المُحكَمَة وبين الچوب الأورجانزا الواسعة . ارتحلت دبلتُها الذهبية مجددا من إصبع لآخر واستقرت عند خنصرها فوصلت بذلك إلي نهاية المطاف وما عاد أمامها مكان آخر تذهب إليه. تهدَلَت ..ترَهَلَت .. تبَدَلَت ولم تعد هي هي . لم تكن هيئتها الجديدة غريبة عليها، لا بل ولم تكن هيئتها جديدة من الأساس فهذا عهدها بنفسها من وقت ليس بالقصير، كانت تعرف أنها تتحول بالتدريج إلي امرأة ممتلئة وكانت التعليقات السمجة من هذه المرأة أو تلك تتولي تنبيهها إلي أنها تفقد رشاقتها إن هي تناست أو تغاضت، لكن في مواجهة الجميع دائما ما كانت حججها جاهزة للتبرير: الحمل ، الضغط النفسي ، زحمة العمل ، الجوهر أهم . وفي بعض الأحيان كانت تبدو لا منطقية حين تقول إن الظرفاء عادة لا تنقصهم البدانة وكانت تجد في ذلك ما يُفحِم . تملصت طويلا من قرار العودة بنفسها إلي نفسها.. التملص كلمة ليست دقيقة تماما وأدق منها أن صاحبتنا لم تضع هذا الأمر ضمن أولوياتها.

***

الآن الأمر اختلف ، فها هي قد بدأت تتصرف كما لو كانت قد انتقلت فعليا وليس فقط شكليا إلي الشريحة العمرية الأعلى . ضبطت نفسها وهي توزع النُصح على من حولها وكأنها قد أوتيت الحكمة مع بضع الكيلوجرامات الزائدة التي اكتسبتها. لم يعد في إمكانها أن تطير، هل كانت فعلا تطير؟ يبدو هذا فقد كان مَن حولها يدللونها ب "نحلة" على وزن اسمها "نهلة" وكان هذا اللقب يسعدها جدا لأنه يخلع عليها قدرات خارقة لا تتوفر لسواها لكنها بالتدريج تثاقلت أكثر فأكثر وصارت مثل الجميع. راحت تبحث مؤخرا عن نساء في مثل حجمها وتستمتع معهن بشمس الشتاء المحببة ففي صحبتهن تكون على راحتها ولا يُدَاخلَها شعور بالحرج. المسألة إذن لم تعد مسألة بضع شحوم إضافية في عنق أو خصر أو إصبع لكنها أصبحت مسألة مسافة أخذت تباعد بينها وبين شخصيتها الحقيقية.

***

قبل أن تتخذ قرارها بالذهاب لطبيب مختص كانت لها بعض المحاولات المتفرقة التي مرت بها تقريبا كل امرأة تبحث عن الرشاقة، من أول وضع صورة امرأة بدينة على باب الثلاجة بقصد التنفير مرورا بتناول أدوية حرق الدهون وانتهاء بممارسة الرياضة على كل الأجهزة الممكنة ، لكن شيئا لم يكن يتغير بل إنها بمرور الوقت صادقت المرأة البدينة إياها ولَم تعد تنفر منها! ثم قررت أن تدخل لنفسها من مدخل مختلف، قالت إنها بحكم تركيبتها النفسية مخلوقة لا تحب الفشل.. وإنها قادرة على التأقلم مع الظروف المختلفة، ذكّرت نفسها بالشهور الأولى الصعبة من بعثتها الدراسية في اليابان عندما كانت تعافر في هذا البلد البعيد وحدها، وتتعلم لغته الجديدة وحدها، وتتحمل طقسه البارد وحدها، وتتأقلم على طباعه وطعامه وحدها ثم عادت بعد سنوات أربع مصحوبة بال "دال" الثمينة تسبق اسمها. ارتاحت لهذه الذكرى كثيرا لأنها إحدى أهم نجاحاتها في الحياة، ولأنها حطمت فيها واحدة من أهم الأساطير التي ظلت أسيرة لها سنين عددا : أسطورة التوأمة الشعورية بينها وبين الناس والعادات والأمكنة التي تعرفها وتتأقلم معها، وتساءلت ماذا يمنعها إذن من أن تحطم أيضا أسطورة بدانتها ؟ 

***

في عيادة الطبيب الشهير أخذَت صاحبتنا دورا متأخرا، وفي الأحوال العادية كان هذا الأمر كفيلا بأن يستفزها لكنها لم تتململ.. أسندَت رأسها للوراء وأغمضت عينيها ولعلها غفت قليلا وراحت تنتظر. الجلبة الشديدة من حولها لم تساعدها على الاسترخاء، والنقاش المحتدم بين النساء خطف سكينتها خطفا وما باليد حيلة. دار الحديث حول الأطباق المرشحة لليوم "الفري" وقد شملت تقريبا كل ممنوع فلم تستثن منه شيئا، قاوَمَت صاحبتنا ضحكة خبيثة وهي تستدعي المقولة الشهيرة عن أن النظام الرأسمالي يحمل في طياته بذور فنائه فمثلها تماما زيارة طبيب التخسيس التي تبدأ بالتخطيط ليوم التسيب. ظلَت مشاعرها محايدة إلى أن اقترحت إحدى السيدات في اليوم "الفري" طبق الكنافة النابلسية فاختلف الوضع كليا بالنسبة لها، فصاحبتنا تعاني ضعفا خاصا أمام هذا النوع من الحلوى الشرقية منذ تذوقته لأول مرة في الشام من سنين طويلة ولم يكن معروفا آنذاك في مصر على نطاق واسع. نبّه ذكر الكنافة النابلسية حاسة التّذوق لديها فابتلعت ريقها، وجدد ذكرياتها الحلوة عن الشام وأهل الشام فشردت ولَم تدرِ أيهما صبّ قطرات العسل المصفى في حلقها أهي الحلوى أم الذكريات.

***

رشّحت صاحبة الاقتراح اللذيذ أحد المحلات السورية الجديدة في مدينة ٦ أكتوبر لشراء الكنافة إياها وأسهبت في وصف النَفَس والصنعة والطعم فطار النوم من عيني صاحبتنا. اعتدلَت في جلستها ولمعت عيناها وسألت السيدة : هل يمكن أن أتطفل وأسأل حضرتك عن عنوان محل الحلويات؟ وبينما هي تدّون العنوان بكل اهتمام تخايل أمامها وجه السيدة البدينة على ثلاجتها تبتسم راضية وتشاركها الاهتمام.. أو هُيئ لها أنها كذلك!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved