أمام شباب وشابات العرب الكثير ليتعلموه

علي محمد فخرو
علي محمد فخرو

آخر تحديث: الخميس 25 يناير 2018 - 10:50 م بتوقيت القاهرة

يخطئ من يعتقد أن مجتمعات الوطن العربى ستقبل صاغرة أو متعبة بالأوضاع الحالية المزرية التى وصلت إليها، بعد أحداث وفواجع الحراكات الجماهيرية العربية الكبيرة التى اجتاحت الأرض العربية عبر السنوات الثمانى الماضية. هذا قول يتناقض مع تاريخ المسيرة الإنسانية ومع المنطق ومع رياح التغيرات الاجتماعية والتكنولوجية والتواصلية الكبرى التى تهب على العالم كله.

وبالطبع فإن فترات لعق الجراح وتضميدها تتصف عادة بالهدوء الخادع، لكن ما يحمله المستقبل لا يمكن إلا أن يحمل فى أحشائه ما يصحح الحاضر. ولذلك فإن مظاهرات الجياع والعاطلين عن العمل والمهمشين التى جابت شوارع العديد من عواصم العرب وأريافها ما هى إلا النسائم التى تشير إلى عواصف الأفق البعيد.

ولأن شباب وشابات الأمة العربية هم الذين سيصنعون ذلك المستقبل فإن الحاجة ماسة لأن يُذكروا بأهمية دراسة ووعى مسيرات بعض الأنساق السياسية والفكرية التى صنعت عالم اليوم. فى مقدمة هذه الأنساق النسق الذى صنعته الأيديولوجية الليبرالية عبر مسيرتها خلال القرنين الماضيين. لقد ولدت تلك الأيديولوجية من رحم الحداثة، التى بدورها ولدت من رحم الثورتين الفرنسية والأمريكية اللتين رفعتا شعارات تغييرات راديكالية اجتماعية وسياسية.

لكن الليبراليين أصابهم الذعر من إمكانية حدوث فوضى وصراعات دموية. ولذلك قرروا أن تكون أيديولوجيتهم وسطية، بين الراديكالية اليسارية واليمينية المحافظة. فى قلب تلك الوسطية كان شعار الإصلاح التدريجى وعدم اختصار الوقت. وقدم الليبراليون صفقة متوازنة تقوم على تقليص امتيازات الطبقة المحافظة القديمة، ولكن دون اجتثاثها، وعلى تحسين أوضاع الطبقات العاملة والفقيرة من خلال السماح بوجود تنظيماتها المدافعة عن حقوقها من جهة، ومن خلال القبول بدولة الرعاية الاجتماعية فى حقول التعليم والصحة والإسكان والبطالة ومن جهة ثانية.

***

وعلى الرغم من قيام الثورات الاشتراكية هنا أو هناك، وعلى الرغم من محاولة الانتقال إلى النظام الشيوعى فى الاتحاد السوفييتى السابق، فإن النسق الليبرالى فى الحكم والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية ظل هو السائد والثابت عبر قرنين كاملين.. من هنا ساد المجتمعات الغربية الهدوء والسلم الأهلى بصورة عامة.

لكن الليبرالية انقلبت على نفسها عندما انتقلت من أصولها الكلاسيكية إلى صورتها الجديدة: الليبرالية الجديدة العولمية البالغة التوحش والاستقطاب، بل وحتى المعادية لبعض جوانب الديموقراطية.

لقد تم كل ذلك خلال الثلاثين سنة الماضية، بعد أن ادعى الليبراليون من أمثال السيدة المتوفاة، مارجريت تاتشر، رئيسة وزراء بريطانيا السابقة، وأمثال المتوفى رونالد ريجان، الرئيس الأمريكى السابق، بأن العمال والفقراء قد بالغوا فى مطالبهم وأنهم بنقاباتهم القوية المنظمة يعرقلون الاقتصاد الرأسمالى الإنتاجى.

اليوم يجرى الحديث عن نهاية الليبرالية، بعد أن فشلت فى تحقيق وعودها من خلال الإصلاحات البطيئة وقيام دولة الرفاهية الاجتماعية. فالإصلاحات تتراجع ودولة الرعاية الاجتماعية بجرى بناء حيادها الكاذب من خلال تخليها عن مسئولياتها الاجتماعية ومن خلال هيمنة متطلبات حرية الأسواق التجارية على كل تصرفاتها.

أى أن الليبرالية أصبحت، بقصد أو بدون قصد، تعادى الديموقراطية الشاملة العادلة، التى تشمل السياسة والاقتصاد، والتى تصرُّ على التوزيع العادل للثروة ولا تكتفى بوجود انتخابات وبرلمانات فقط.

***

ما الهدف من سرد تفاصيل تلك المسيرة على شباب وشابات الأمة العربية؟ الهدف هو تحذيرهم من الأهداف الخفية وراء الناقدين والشامتين لما جرى فى الأرض العربية وذلك بقصد إقناع الناس بالتخلى عن شعارات الحرية والكرامة الإنسانية والعدالة الاجتماعية، التى نادت بها حناجر الملايين من شعوب الأمة العربية، وأن يستبدل بها شعارات غامضة تبطئ، بل تعيق، انتقال المجتمعات العربية من أوضاعها المتخلفة الدموية الحالية، ومن علاقاتها الاجتماعية التسلطية الاستغلالية السابقة، إلى أنظمة ديموقراطية تقوم على أسس الحرية والكرامة والمساواة والعدالة والمواطنة الحقة.

سيكثر الحديث عن العقلانية والسلم الأهلى ومخاطر الفوضى وجهالة الغوغاء، وتدمير فرص الاستثمارات الخارجية وحركة السياحة... إلخ. ولكن سيجرى القفز فوق قيم العدالة فى توزيع الثروة والسلطة والجاه، وفجيعة الاستباحة الاستعمارية والصهيونية لكل الأرض العربية، وتصدع التضامن العربى، وتجديد الثقافة العربية والفقه الإسلامى، وغيرها الكثير الكثير.

للشباب العربى عبرة فى مسيرة الأخطاء والخطايا لليبرالية الكلاسيكية الغربية، التى لا تزال تنقل تلك المجتمعات من أزمة إلى أزمة، ومعها مجتمعات العالم كله.

وإذا كنا قد فصلنا مسيرة الأيديولوجية الليبرالية فلأنها النسق المطلوب فى عصرنا. لكن هناك دروس وعبر فى مسيرة الأيديولوجيات الكبرى الأخرى. وهى الأخرى، تحتاج إلى أن يؤخذ ويترك منها.

مسيرة هذا العالم التاريخية مليئة بالوعود والأحلام الكاذبة. والذين يريدون أن يتصدوا للمستقبل من شباب وشابات هذه الأمة عليهم دراسة ذلك التاريخ، إذ حتى الآن ظلت تلك الأحلام والوعود وراء ألف قناع وقناع، والنتيجة هى عالمنا المريض التائه المأزوم الذى نراه أمامنا.

dramfakhro@gmail.com

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved