شىء من الخوف

محمد الهوارى
محمد الهوارى

آخر تحديث: السبت 25 يناير 2020 - 10:15 م بتوقيت القاهرة

على مدى أكثر من مائة عام يطالعنا وجه العالم والمفكر الأمريكى السابق بنجامين فرانكلين على ورقة المائة دولار، فبينما تم سك معظم العملات الأمريكية المتداولة فى شكلها الحالى فى عام ١٩٢٨، ظهر وجه فرانكلين أول مرة على ورقة المائة دولار عام ١٩١٤، و فرانكلين لم يكن من رؤساء أمريكا ولكنه كان عالما ومفكرا مشهورا، ويعتبر من «الآباء المؤسسين» للولايات المتحدة الأمريكية فى شكلها الحالى ومن واضعى دستورها الذى قد يكون تقديسه لدى الشعب الأمريكى مثل الكتب الدينية، ومن أشهر مقولات فرانكلين كانت فى خطابه إلى الفيزيائى الفرنسى جان باتيست ليروى بعد الانتهاء من الدستور؛ حيث قال له: «دستورنا الجديد تم الآن اعتماده، ومظهره يعد بالبقاء، ولكن لا شىء فى هذا العالم أكيد إلا الموت والضرائب»، وصار النصف الثانى من هذه الجملة مثلا يضرب فى العالم الغربى «لا شىء أكيد فى هذا العالم سوى الموت والضرائب»، وهذا هو موضوعى اليوم: «الضرائب»، قررت أن أكتب عن هذا الموضوع الشائك فى لحظة تتغير فيها نظرة العالم للضرائب ويبدو أننا على مشارف تغيير كبير فى كيفية احتسابها وحصرها فى العالم المتقدم كله.
كنت منذ شهور قليلة كتبت عن اتجاه أراه سيأتى قريبا فى العالم كله بقوة وهو التحول ناحية اليسار قليلا أو كثيرا عما تعودنا عليه منذ عقود عديدة، حتى قلاع العالم الرأسمالى أصبح يهزها الاتجاه اليسارى بقوة، ففى أمريكا مثلا كل مرشحى الحزب الديمقراطى للانتخابات الرئاسية القادمة لديهم أجندات يسارية تبدأ من اليسار قليلا مع بايدن الذى يريد أن يعيد لتأمين أوباما الصحى رونقه ووضعه بعد الحرب الضروس التى شنها عليه ترامب، مرورا بوارين التى تريد فرض ضرائب ثروات على الثروات الكبيرة فى الولايات المتحدة، وأخيرا بيرنى ساندرز الذى يترشح على أرضية معادية للكيانات الاقتصادية الكبرى، إذا فاز ساندرز ببطاقة الترشح عن الحزب الديمقراطى وهو حاليا الأقرب لها بعد بايدن فسنرى معركة انتخابية بين ديماجوجية اليمين متمثلة فى ترامب وديماجوجية اليسار متمثلة فى ساندرز، ستكون معركة تذكرنا بمنافسات الأولمبياد بين أمريكا والاتحاد السوفيتى بعلمها الأحمر المزين بالمنجل والمطرقة، ولكن، هذا ليس موضوعنا.
سألنى زميل دراسة سابق فى ضوء مقالى ذلك وعنوانه «قبلة الاقتصاد العالمى إلى اليسار قليلا» عن رؤيتى لقدرة العالم الغربى فى القضاء على هروب رءوس الأموال إلى الخارج (كما سماها)، وهو يرى ذلك كعقبة رئيسية ضد وجود أجندة يسارية فى الدول الغربية، والسؤال وجيه ولكن الغرب وجد إجابة أخرى وذلك لأنهم سألوا سؤالا مختلفا، سهولة حركة رءوس الأموال بالنسبة للغرب هى من ضمن الأسس التى بنوا عليها منظومتهم، المنظومة الضريبية متماشية مع الاقتصادية متماشية مع الاجتماعية والسياسية، هى منظومة قائمة على الحريات، وعلى ذلك فكما الإنسان حر أن يفعل ما يشاء هو أيضا حر بأن يحرك أمواله كما يشاء، ولكن يقول المثل أنت حر ما لم تضر، ونستطيع أن نرى تطبيق هذا المثل فى الغرب، حريتك تقف حيث تضر الآخرين، وهى تقف أيضا حيث يجب أن تؤدى واجباتك المدنية لأنك إذا لم تطبقها فأنت تجور على حقوق مواطنى بلدك الآخرين، فالسؤال الذى سأله الغرب ليس إذا كنا نستطيع أن نمنع حرية حركة رءوس الأموال ولكن كيف نستطيع حصرها، فإذا حصرت فتستطيع أن تطالب بالحقوق.
جاء أول وأقوى تطبيق لهذا الحصر من أمريكا عندما طبقوا قانون الفاتكا FATCA، قد تفاجأ عندما تفتح حسابا فى بعض البنوك العالمية وحتى فى مصر أنك تملأ أوراقا خاصة بالولايات المتحدة الأمريكية تعلن فيها أنك غير حامل للجنسية الأمريكية، وطلب الإعفاء من احتجاز الضرائب فى أمريكا، والسبب أن الأمريكان يقومون بحصر جميع الحسابات خارج أمريكا المملوكة لأبناء بلادهم وبذلك أى دخل للمواطن الأمريكى فوق رقم معين حتى إذا كان خارج أمريكا يجب أن يحاسب عليه ضريبيا، بالطبع الموضوع به تفاصيل كثيرة ويخضع لاتفاقيات دولية وبينية (بين الدول) ولكن الفكرة أن اليد الطويلة للقانون الأمريكى تضع الخوف فى قلب أى مواطن بما يكفى ليقوم هو بالإفصاح من نفسه عن أى دخل خاضع أو غير خاضع للضريبة، وكذلك بالنسبة للمؤسسات المالية العالمية التى صار بعضها يرفض فتح حسابات للمواطنين الأمريكيين بسبب عبء الإفصاح الذى يجب أن يقوم به البنك، باقى الدول الغربية حذت حذو أمريكا ووقعت على اتفاقية المعايير الموحدة للإفصاح Common Reporting Standards والمعروفة اختصارا بـ CRS والتى تجبر مواطنى هذه الدول عن الإفصاح عن حساباتهم تماما مثل الفاتكا، ولكن تبقى الفاتكا الأشد فتكا، فذراع العم سام طويلة جدا وقوية وتستطيع فرض غرامات بالمليارات على أعتى وأكبر بنوك العالم إذا لم تقم بإبلاغ السلطات الأمريكية عن كل سنت مملوك لأمريكى وكذلك حركة حساباته.
المرحلة القادمة من تحدى حصر الدخل ستكون فى رأيى الأقوى والأهم، شركات عالمية كبرى تحول فواتيرها لشركات تابعة وشقيقة فى دول الضرائب فيها منخفضة حتى تتحايل بطريقة قانونية على الضرائب المرتفعة، مثلا، إذا كنت مشتركا فى خدمة نتفليكس، غالبا ستجد الفاتورة قادمة على كارت الائتمان الخاص بك من شركة نتفليكس هولندا، الشركة بذلك تدفع الضرائب المنخفضة فى هولندا وتستفيد من الاتفاقيات العالمية لتتفادى دفع الضرائب المرتفعة فى أمريكا، العالم اليوم يتجه لتغيير ذلك والدراسات الجارية حاليا تريد أن تغلق هذه الثغرة، البعض يقول إن مقدم الخدمة يجب أن يدفع ضرائب فى البلد التى يقدم فيها الخدمة أو التى يوظف فيها أكبر عدد من العمالة أو التى لديه أكبر حجم استثمارت فيها إلخ. الخيارات كثيرة والثابت أن العالم لا يريد أن يستمر فى تجاهل هذا المصدر المهم من الدخل القومى.
عندما نأتى لمصر، نرى أن هناك مجهودات تتم بالفعل لاحتساب ضرائب على بعض الخدمات الإلكترونية مثل إعلانات فيسبوك وهذا شىء طبيعى فى العالم كله، المشكلة أن نسبة التهرب مرتفعة وبالذات بسبب الاقتصاد الموازى، هذا معناه أن لدينا شريحة دافعة للضرائب تتحمل عبء من لا يدفع، معناه أيضا أن أى زيادة مستهدفة فى الضرائب سوف تأتى غالبا من نفس الشريحة الملتزمة، محملة إياها بأعباء قد تصل لأكثر من وطئها، والحل؟ عندما كنت أتحدث مع صديق يعمل فى مؤسسة مالية عالمية رفيعة قال لى رأيا مخالفا ومختلفا عما نفعله، قال إن أفضل وسيلة لتحصيل الضرائب فى البلاد التى بها نسبة تهرب مرتفعة هى تحصيل الضرائب على الأموال عند صرفها وليس عند التحصل عليها، بمعنى آخر، صاحب مصنع تحت السلم لا تستطيع التحصل على ضرائب منه سوف يأتى حتما يوما ويريد شراء شىء بهذه الأموال التى ربحها، شراء شقة وتسجيلها، شراء قطعة أرض، شراء سيارة، يصبح الحل هنا هو التحول من نظام ضريبى قائم على احتساب ضرائب الدخل ومشاكل الحصر والمحاسبة والتحصيل إلخ، إلى نظام ضريبى قائم فى الأساس على الضرائب المحصلة وقت الشراء أو التسجيل مثل ضريبة المبيعات ومصاريف ترخيص السيارات ومصروفات تسجيل العقارات وحتى ضرائب على ودائع البنوك إلخ، تبسيط حساب الضرائب والرسوم سوف يكون له أثر إيجابى بالطبع على الحصيلة ولكن أيضا على المناخ الاستثمارى بأن تصبح الحسبة سهلة وبسيطة، كذلك الجمارك، كثرة عدد البنود الجمركية وتغييرها الدائم يجعل الحياة أصعب ويجعل أى رجل أعمال يخشى من تغير القواعد بعد أن يبدأ مصنعا فيصبح منتجه مرتفع التكلفة جدا ولا يستطيع المنافسة، الأفضل أن يكون هناك قواعد واحدة وواضحة ونسبة معلومة مسبقا على كل السلع، عند دخولك سويسرا، جمارك المطار لها تطبيق على الهاتف المحمول يوضح حقوقك وواجباتك وتستطيع من خلاله أن تفصح عن السلع التى يتوجب عليها دفع ضريبة المبيعات وتدفعها على التطبيق قبل الوصول، مجال التفاوض مع موظف الجمارك قليل، فلماذا نعقد الأمور؟
عودة لعنوان المقال، يجب أن نتذكر دائما أن شيئا من الخوف جيد لتطبيق نظام ضريبى ذى حصيلة مرتفعة ولكن إذا زاد الخوف، فسنجد أننا قد نكون فزنا بارتفاع فى الحصيلة على المدى القريب ولكن حذارى من أن يكون الثمن غاليا إذا هددنا على المدى البعيد نسبة النمو فى النشاط المقبل من القطاع الخاص وهو الممول الرئيسى للإيرادات الضريبية.
مدير صناديق استثمار دولية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved