الأدب الذى فضلوه على العِلم فى زمن الكورونا

كريم ملاك
كريم ملاك

آخر تحديث: الإثنين 25 يناير 2021 - 6:55 م بتوقيت القاهرة

يتسارع العالم للتعاقد مع شركات الأدوية للحصول على لقاح، لقاحٌ يُقال إنه فعال ضد فيروس كوفيدــ١٩ الحالى، ما يسمى فيروس الكورونا. لكن حقيقة الأمر أن تاريخ البشرية منذ آخر مائة عام يفسر المنحنى الذى وصلنا إليه وكيف تم تسليع البنى آدم مقابل الأرباح الطائلة التى ستحققها شركات الأدوية. خطيئة البعض هو تصوير الأمر على أنه لا مفر منه وأن لا حول ولا قوة لدولةٍ مثل مصر التى عليها أن تصبر وتجاهد وتدخر مواردها القليلة لشراء اللقاح وعدم غلق البلد لحين انتهاء الأزمة. ربما يقول البعض إن كل ما نملكه فى هذه المحنة هو أخلاقنا لأن «الأدب فضلوه على العلم» وهو مثل مصرى أصيل مستنبط من الشاعر حافظ إبراهيم، ولكن بيوت الشعر الأصلية تقول غير ذلك.
للوهلة الأولى قد تبدو الصورة هكذا، مصر لا تملك الموارد التى تسمح بحملة تطعيمات باهظة للقاح فعالٍ صعب نقله ويتطلب بنية تحتية متطورة لحفظه وتوزيعه، فحتى أمريكا تم ضربها تماما عندما قامت بإغلاق البلد جزئيا فى بعض الولايات مما شل اقتصادها وهو ما لا تحتمله مصر. لكن هناك حدث آخر يفسر ما تم فى أمريكا بعيدا عن ما يعتقده البعض فى مصر.
***
فى شهر سبتمبر من عام ٢٠١٩ قامت الكلية البحرية الأمريكية بمحاكاة مناورة حرب افتراضية (Simulated War Game) تقيس رد فعل الحكومة الأمريكية ووزارة الدفاع فى حال تفشى جائحة عالمية ضربت عواصم العالم، خططت المناورة للإجراءات اللازمة لاحتواء الوباء ومنع وصوله للأراضى الأمريكية عبر غلق جزئى للحدود والموانئ. وما يزيد الأمر ريبةً هو أن الجزء الثانى من مسلسل Designated Survivor، الذى تم إنتاجه فى عام ٢٠١٧، خصص حلقة كاملة لسيناريو تفشى فيروس فى الولايات المتحدة والتهديدات التى نتجت عنه. ولكن ما يثير الدهشة، أو قل بدلا من الدهشة ما يدعو للرثاء، هو أن هذه الحلقة كانت لها تصور ورد فعل حول التعامل مع الوباء أفضل بكثيرٍ مما تم فى عصر ترامب. وهذا ليس أمر عجيب، فوزارة الدفاع الأمريكية تصرف مبالغ طائلة فى مجال صناعة الأفلام والمسلسلات منذ الحرب العالمية الثانية ولها علاقة استراتيجية تاريخية مع هوليوود. إذا رجعنا للمسلسل سنرى أن أول شىء فعله الرئيس الأمريكى هو تحديد شركة أدوية رائدة فى مجال السرطان تقوم بإجراء تجارب سريرية لدواء لم يحصل على موافقة هيئة الدواء الأمريكية ولكن يجوز استخدامه لمحاربة الفيروس الذى يشبه الأنفلونزا وتطور منه لقاحا فعالا. لكن لم يكن الأمر بهذه السهولة، فى الأول لم يوافق رئيس مجلس إدارة الشركة على استعمال دوائه خوفا من نزول اللقاح السوق وإعادة هندسته من قبل المنافسين ما لم يتم تسجيل حق الابتكار والملكية الفكرية فى براءة اختراع تابعة للمنظمة العالمية للتجارة. على مضضٍ، قام المستثمر بالموافقة مقابل اتفاقية تعويض وحصانة من قبل الحكومة الأمريكية، وهو ما قدمته الحكومة الإنجليزية بالفعل لإحد الشركات المنتجة للقاح على أراضيها، ازدادت الطينة بلة عندما رفض المستثمر إعطاء المزيد من الجرعات إلا أن حكم محكمة صدر يلزمه بإعطاء الحكومة عشرة آلاف جرعة من اللقاح، سرعان ما اكتشف البيت الأبيض أنه قام بتخزين المزيد من الجرعات حتى قام الرئيس الأمريكى باستخدام قانون الإنتاج الحربى (The Defense Production Act) لإعادة توجيه جرعات اللقاح التى تنتجها الشركة للسوق المحلية لكون هناك خطر داهم يهدد الأمن القومى الأمريكى، وهو بالفعل ما قام به ترامب لكن بعد تأخير كبير حسب تقدير البعض، مما سبب نقصا فى المخزون الاستراتيجى الطبى (National Strategic Stockpile)، شاملا مضادات الفيروسات، والكمامات، وأجهزة الأكسجين، وأجهزة التنفس الصناعى... إلخ. بهذا تحققت كلمات الشاعر حافظ إبراهيم «لا تَحسَبَنَّ العِلمَ يَنفَعُ وَحدَهُ.. ما لَم يُتَوَّج رَبُّهُ بِخَلاقِ». كان رهان ترامب على تسليع فيروس الكورونا رهانا خاطئا بكل المقاييس.
***
أما بيت الشعر التالى فى قصيدة حافظ إبراهيم، «وَالعِلمُ إِن لَـم تَكتَنِفـهُ شَمائِـلٌ تُعليهِ كـانَ مَطِيَّـةَ الإِخفـاقِ»، فهو ينطبق على إنجلترا. لعلها مفارقة مؤلمة أن تكون إنجلترا بلدا مصنعة للقاح فيروس الكورونا لكنها غير قادرة على تطعيم شعبها بسرعة نسبية نتيجة لإخفاق تاريخى. فى عام ١٩٢٩ ولدت الشركة الإمبريالية للكيماويات (Imperial Chemical Industries) بعد دمج عدة شركات فى كيان واحد، كانت أهمها الشركة السويدية نوبل الديناميت، تلك الشركة التى ادعى مؤسسها الصدمة حين عَرف أن اختراع الديناميت يستخدم للقتال وغيّر موازين القوة فى الحرب. كان تأسيس هذه الشركة أمرا حاسما لصناعة القنابل وللإمبراطورية البريطانية فى استحواذها على سوق القنابل العالمى. سرعان ما تطورت تلك الشركة حتى قررت فصل نشاطها الطبى عن الشركة الرئيسية وأسست شركة زينيكا، التى أصبحت شركة أسترا زينيكا التى نقلت مصنع اللقاح، وهو أكبر مصنع للأمصال واللقاحات فى العالم، إلى الهند. حتى فى حين توفر العلم والريادة والمال، لم تقدر إنجلترا أن تحسم أمرها وتوفير اللقاح بسرعة نسبية وذلك لأنها فضلت منطق السوق والشركات الكبرى على حساب مواطنيها مما وصلها لمرحلة الإخفاق التى تشهدها إنجلترا الآن.
أما الهند، فهى البلد الوحيدة التى جمعت مؤخرا بين الأدب والعلم والأخلاق. منذ بداية الوباء قامت الهند بتحركات دولية تتيح لها أن تلجأ لمنظمة التجارة العالمية لكسر قواعد براءة الاختراعات وحقوق الملكية الفكرية لكون العالم يمر بظروف استثنائية طارئة تهدد مصير البشرية. لجأت الهند لكل من الصين وروسيا لمناصرتها فى أروقة منظمة التجارة العالمية كى تحصل على السند القانونى لكسر حقوق البراءة الخاصة باللقاح لتصنيعه فى مصانعها وتوزيعه، لأنه ببساطة مَن فى كامل قواه العقلية سيسمح لشخصٍ بالتربحِ عبر مرض وموت الملايين أثناء جائحة عالمية؟ استندت تحركات الهند للسوابق التاريخية التى خاضتها الهند حين قامت بالتصادم مع الشركات العالمية للأدوية لإنتاج دواء لفيروس سى، وهو ما غيَّر تفكير شركات الأدوية وأقنعهم بضرورة تصدير حقوق إنتاج هذه الأدوية بثمن أقل مما اعتادوا حتى انضمت الأرجنتين للهند وقامت بكسر حقوق الملكية الفكرية لإنتاج دواء لفيروس سى أيضا. أما فى البرازيل، فبمجرد التلويح والتهديد باللجوء لمثل هذه الإجراءات رضخت شركات الأدوية الكبرى فى تسعيرها حسب تقدير البعض بنحو مليار دولار فى التعاقد على دواء لفيروس ايتش أى فى (HIV).
***
أما نحن المصريون، أين نحن من كل هذا؟ للأسف الإجابات قليلة، والظروف كادحة. معظم ما نراه هو مساع للمضى وراء شركات دواء عالمية لشراء عدة لقاحات وتفويت فرصة ذهبية لمناصرة قضية الهند وتوفير لقاح فعال وبتكلفة ضئيلة. ففى حال توفر الإرادة السياسية، يمكن لمصر كسر قواعد الملكية الفكرية والانضمام إلى الهند حتى تقوم الشركة المصرية للمصل واللقاح بإنتاج النوع الجنيس (generic version) من اللقاح العالمى كما ستقوم الهند، فعلينا أن نقتدى بكلام حافظ إبراهيم بدلا من السعى لتلميع صورتنا وإيجاد أعذار لنقص الأوكسجين فى المستشفيات. ينبغى أن تكون الأولوية تشكيل خطة استراتيجية للتعامل مع الفيروس وتطعيم الشعب المصرى كاملا عبر عملية تعبئة لإنتاجه فى مصر، وهو ما سيساعد مصر على الخروج من أزمتها قبل جيرانها، واستخدامه ككارت دبلوماسى لتطعيم الجيران فى أفريقيا. لا سيما أن إنتاج اللقاح فى مصر سيكتب لاقتصادها عمرا جديدا بدلا من القول بأن تكلفة الغلق الجزئى للاقتصاد ستكون باهظة، فهذه أزمة ليس لها مثيل: نكون أو لا نكون، «فَالناسُ هَذا حَظُّهُ مالٌ وَذا عِلمٌ وَذاكَ مَكارِمُ الأَخلاقِ« أما نحن، فعلينا أن نختار الاختيار الصحيح كى ننال من حظنا ما أعطاه لنا الله من علم ومال وأخلاق كى ننقذ أرواح مواطنينا ونتفادى إملاق أمريكا وإخفاق بريطانيا، وهما إمبراطوريتان اثنان راهنا على الأرباح الطائلة السريعة ولكن رزقهما القدرُ جرعةً قاسيةً من العدالةِ السماويةِ، لهذا علينا أن نتذكر الكلمات الحقيقة لقصيدة حافظ إبراهيم بدلا من الجملة العامية الدارجة «الأدب فضلوه على العلم»:

وَالمالُ إِن لَم تَدَّخِرهُ مُحَصَّنا بِالعِلمِ كانَ نِهايَةَ الإِملاقِ
وَالعِلمُ إِن لَم تَكتَنِفهُ شَمائِلٌ تُعليهِ كانَ مَطِيَّةَ الإِخفاقِ
لا تَحسَبَنَّ العِلمَ يَنفَعُ وَحدَهُ ما لَم يُتَوَّج رَبُّهُ بِخَلاقِ

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved