التعليم العربى.. أزماته قائمة قبل كورونا

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الثلاثاء 25 يناير 2022 - 6:45 م بتوقيت القاهرة

نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتبة رفيف رضا صيداوى، تقول فيه إن النظام التعليمى يرتبط بالبنية الاقتصادية والاجتماعية، ولما كانت النماذج الاقتصادية العربية تابعة يغلب عليها الطابع الريعى، جاءت الأنظمة التعليمية حداثوية شكلا عاجزة عن التطور مضمونا ليجىء الوباء فى الأخير ويزيد من تحديات التعليم... نعرض منه ما يلى:

قررت الجمعية العامة للأُمم المتحدة فى الثالث من ديسمبر 2018 إعلان يوم 24 يناير من كل عام يوما دوليا للتعليم، وذلك احتفاء بالدور الذى يضطلع به التعليم فى تحقيق السلام والتنمية، ولاسيما الهدف 4 من أهداف التنمية المُستدامة الداعى إلى ضمان التعليم الجيد المُنصف والشامل للكل وتعزيز فُرص التعلُم مدى الحياة للجميع. جاء ذلك فى وقتٍ باتت قضايا التعليم فى البلدان العربية تكتسب فيه أهمية متزايدة منذ أكثر من ثلاثة عقود، نتيجة الاختلالات التى يشهدها هذا القطاع، بمراحله كافة، والتى ضاعفت جائحة كورونا من تداعياتها.
قبل الجائحة، كانت هذه الاختلالات قد ترافَقت مع عدد من الظواهر الإيجابية، أبرزها الإقبال المُتزايِد على التعليم، المُتمثِل فى تراجُع نِسب الأمية فى البلدان العربية؛ حيث أصبح معدل القرائية لدى الفئة السكانية ما دون الـ 65 من العُمر يقارب الـ 100%، فضلا عن ارتفاع نِسب الالتحاق بمَراحِل التعليم العام والعالى، حيث ارتفع معدَلُ الالتحاقِ الأساسى فى المنطقة العربية من 76.6 فى المائة عام 1999 إلى 84.5 فى المائة عام 2013، وهذا المعدَلُ الأخير قريب من المتوسِط العالَمى 89.0 (فى المائة)، وارتفع الالتحاقُ المدرسى فى أعوام 1970 ــ 2003 ثلاثة أضعافٍ فى التعليم الثانوى وفى التعليم العالى.
غير أن غالبية التقارير الوطنية والعربية والعالَمية تستند فى حُكمها على الاختلالات التى تُرافِق العملية التربوية فى العالَم العربى إلى مؤشرات عدة أبرزها مؤشر الجودة، نتيجة تغيُر مفهوم التعليم ودَوره، على اعتبار أنه ــ أى التعليم ــ أهم عناصر الاستثمار البشرى، وأنه لم يعُد مقصورا على اكتساب المعرفة الأساسية، مثل محو الأمية والمهارات الحسابية، بل يتطلع إلى تحسين النوعية وضمان الجودة.

هذا التعليم من ذاك النظام
لا يخفى على أحد مدى ارتباط قضايا التعليم وجودته بأسباب هيكلية تتعلق بالبنية الاجتماعية الاقتصادية للدول العربية التى رافقت تشكُل هذه الدول. حيث لم يتمكن العالَم العربى تاريخيا من استجماع الشروط التى تؤهله لامتلاك نموذجٍ تنموى خاص ومتقدم من شأنه أن يحمى الواقع التعليمى من كل ما يتهدده، وذلك على الرغم من ظهور إرهاصات على هذا الصعيد فى مرحلة نشوء الحركات الاستقلالية الوطنية ما بين الحربَين العالَميتَين الأولى والثانية، ومرحلة الاستقلال السياسى وبناء الدولة الوطنية فى المشرق العربى ومَغربه، التى امتدت حتى الربع الأخير من القرن المُنصرم، وتجسَدت فى نماذج جزئية للدولة «الحديثة» فى أكثر من بلد عربي، قبل أن نشهد أخيرا مرحلة فشل مشروع هذه الدولة، الذى لا نزال نعيش تفاعلاته وارتداداته حتى اليوم؛ إذ إن من سِمات النماذج الاقتصادية التنموية العربية أنها نماذج تابِعة، بحُكم تبعيتها الاقتصادية أساسا للغرب الاستعمارى، وفشل دولها فى فك هذه التبعية بعد تحررها السياسى، وأنها مشوَهة، يغلب عليها الطابع الريعى الذى يفتقر إلى التصنيع وعاجزة أو متخلِفة عن نقْل التكنولوجيا واستيعابها مُكتفية بشرائها واستيرادها؛ ناهيك عن الازدياد المطرد فى الفوارق الاجتماعية الناجمة عن عدم تكافؤ فُرص الوصول إلى الخدمات العامة والثروات، نتيجة احتكارها من النُخب السياسية والاقتصادية المُسيطِرة.
ولما كانت أنظمة التعليم تتنوع وتتغير فى أساليبها وأهدافها تبعا للزمان والمكان، لكونها ليست من صنْع الأفراد بل من صنْع النظام الاقتصادى ــ الاجتماعى القائم، حملت هذه الأنظمة سمات البنية الاقتصادية الاجتماعية المشوَهة، ذات النموذج الحداثوى شكلا، العاجز عن مُحاكاة النموذج التنموى للبلدان المتقدمة الذى يتبع خيار التطور الديمقراطى، والتقليدى مضمونا، لاستناده إلى مُحاكاةٍ جامدة للموروث الحضارى الإسلامي. هذا فى الوقت الذى كانت تتفاقم فيه الفوارق الاجتماعية فى غالبية دولنا، سواء على المستوى الطبقى، أم الإثنى، أم الثقافى، أم الجندرى، أم المناطقى (ريفى ومدنى)، وحتى على المستوى التعليمى (عام وخاص). فعلى الرغم من تطوُر عددٍ من المؤشرات الكلية فى ما يخص التعليم، كتطوير المَدارِس والجامعات الوطنية أو الرسمية، والازدياد المطرد فى عدد المُنتسبين/ات إليها، وتراجُع نِسب الأمية، وتعميم التعليم الإلزامى فى غالبية الدول العربية، أقله فى المرحلة الإعدادية أو الابتدائية، ظل التعليم ينحو باتجاه الكم، وخاضعا لآليات الحفظ والتلقين والاختبارات، فاقدا لرؤيةٍ فلسفية وفكرية حديثة.

أزمة كورونا وتحديات أزمة التعليم
فعلى الرغم من الإقبال العربى المُتزايد على التعليم العالى المُواكِب لازدياد عدد الجامعات الرسمية والخاصة، إلا أن هذه الفُرص تبقى غير مُتكافِئة، حيث تشير الأرقام إلى أن النسبة الإجمالية للالتحاق بالتعليم العالى بالنسبة المئوية من مجموع السكان فى سن التعليم العالى فى الدول العربية بحسب سنوات 2012 ــ2017 تبلغ 36% (وهى نسبة توازى المعدل العالَمى) مقارنة مثلا بـ68% لدول منظمة التعاوُن الاقتصادى والتنمية (OECD)، و62% لدول أوروبا وآسيا الوسطى، و49% لدول أمريكا اللاتينية والبحر الكاريبى... إلخ. وهذا الإقبال على التعليم الجامعى لا يعنى بالضرورة تكافؤا أو عدالة فى توفير فُرص الدراسة الجامعية، حتى فى الجامعات الحكومية التى تستند فى قبول الطلاب إلى معدلات الشهادة الثانوية؛ إذ يجرى لاحقا توزيعهم على أساس المعدلات هذه، التى لا يُمكن فصلها عن البيئة التى يتحدر منها الطلاب، كالمدرسة، والطبقة الاجتماعية، والمنطقة الجغرافية وغيرها من المتغيرات التى تشير إلى عدم تكافؤ الرأسمال الاجتماعى الثقافى لهؤلاء الطلاب. كما أن هناك عدم توازن فى الالتحاق بالاختصاصات للأسباب الجغرافية والطبقية نفسها، يُضاف إليها الفوارق الجندرية.
وتأتى أزمة كورونا لتُفاقم من حجْم هذه التحديات والمُشكلات البنيوية، ولاسيما فى هذه المرحلة الحَرِجة التى تعيشها أوطاننا فى الألفية الثالثة، لكونها مرحلة الثورة الصناعية الرابعة التى من المتوقَع أن تُحدِث صدمات كبيرة فى أسواق العمل، وأن تتسبب فى المزيد من التفاوتات الاجتماعية «لأن التطورات التقنية المُتسارِعة وانتشار الروبوتات وتقنيات الإنتاج الذكية ستتسبب فى انخفاضٍ كبير فى مستويات الطلب على العمالة غير الماهرة بنسبة تتراوح ما بين 25 و50 فى المائة، حيث ستحل محل العُمال فى قطاعات الزراعة والصناعة والتعدين والوظائف المكتبية والحرفية؛ فيما ستنمو مستويات الطلب على العمالة فى مجالات إنتاج التقنية والهندسة والرياضيات والعلوم والتحليل المنطقى والتفكير الإبداعى وحل المشكلات، نظرا لأن هذه الثورة التى تعتمد على المعرفة ورأس المال المُستثمَر فى مجالات التقنية والابتكار والبحث والتطوير سينتج عنها زيادة فى مستويات عدم العدالة فى توزيع الدخول نظرا لارتفاع العائد على رأس المال المعرفى والتكنولوجى فى مقابل تراجُع العائد على العمل التقليدى والحرفى، بخاصة فى ما يتعلق بالعمالة غير الماهرة التى لا تمتلك فُرص النفاذ للتعليم القائم على المعرفة والتقنية المتطورة».
أخيرا لا بد من التشديد مرارا وتكرارا على أن مُشكلات التعليم فى العالَم العربى عموما لا تنبع من المؤسسات التعليمية نفسها، بقدر ما تنبع من معوقات سياسية واجتماعية أفرزتها وتُفرزها البنى الاجتماعية والسياسية والاقتصادية العربية؛ إذ لا يستوى النظر إلى الواقع التعليمى العربى خارج القراءة الماكروية للواقع التنموى العربى المُثقَل بالمُشكلات والقضايا التى تنتظر الإصلاح. فما المؤسسة التربوية إلا وحدة مجتمعية تتفاعل سلبا وإيجابا مع المُجتمع والدولة. ونجاح أى استراتيجية تربوية عامة، مُنبَثقة عن استراتيجية وطنية شاملة، يحتاج بدَوره إلى قيام الدولة بدَورها فى صَوغ وظائفها الأساسية وتدخلاتها الإنمائية وتوطيد عوامل الفعالية الاقتصادية وآلياتها، انطلاقا من فلسفة اجتماعية قائمة على مفاهيم الحق والحرية والعدالة الاجتماعية، وعلى رؤيةٍ وطنية وثقافية جامِعة عنوانها التحرُر والولاء للوطن.

النص الأصلى:

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved