إعادة التفكير فى العمران والسياحة فى البحر الأحمر

نبيل الهادي
نبيل الهادي

آخر تحديث: الثلاثاء 25 فبراير 2020 - 8:25 م بتوقيت القاهرة

منذ أكثر من ثلاثين عاما وأنا أتردد على المدن والمناطق الرئيسية فى البحر الأحمر، ومنذ أكثر من عشرين عاما أصبح ترددى أكثر انتظاما، وفى السنوات الخمس الماضية أحيانا أزور بعض المدن والمناطق فيها أكثر من خمس مرات فى السنة (ليس للسياحة غالبا).. كما تعلمت الغوص ليس فقط حتى لا أكون متخلفا عن أولادى، ولكن أيضا لأنى وقعت فعلا فى هوى ذلك السحر القابع تحت الماء.
فى نوفمبر الماضى صدر تقرير عن اللجنة الدولية للتغيرات المناخية يتناول منطقة البحر الأحمر، يشير لما نعرفه جميعا من أن النشاط السياحى فى البحر الأحمر يعتمد بنسبة تقرب من 86% على سياحة الشعب المرجانية (سواء من أنشطة الغطس أو الطفو السطحى أو مجرد السباحة بجوار تلك الشعاب أو السفن ذات القاع الزجاجي) ومصر هى الدولة الأولى عالميا من حيث الدخل السياحى المعتمد على سياحة الشعب المرجانية والتى تتركز فى منطقة البحر الأحمر، ولذلك يكون منطقيا توقع أن أى خطر يصيب تلك الأماكن الساحرة سيكون له تأثير كبير على النشاط السياحى. وتوضح نتائج الدراسات فى التقرير أن وضع تلك الشعاب حاليا ومستقبلا يدعو للتأمل وربما القلق نظرا لعاملين أساسيين الأول التغير المناخى العالمى والثانى الأنشطة البشرية وتأثيرها فى المنطقة. وفيما يتعلق بالتغير المناخى العالمى وطبقا لتقارير أخرى أيضا فإن الشعاب المرجانية فى البحر الأحمر وخاصة تلك القريبة من الشاطئ المصرى ربما تكون هى الأكثر صمودا فى العالم أجمع نظرا لتأقلمها بصورة أفضل مع ارتفاع درجة الحرارة وبعض التغيرات الأخرى المتوقعة والتى بدأنا بالفعل نرى بعضا منها والمصاحبة للتغير المناخى. يتوقع التقرير أن تخسر مصر بحلول العام 2100 حوالى 74% (نقصت هذه النسبة إلى 72% بعد مراجعة طلبها الناشرون فى مجلة نيتشر) من شعابها المرجانية فى السيناريو الأكثر تشاؤما وهو ما قد يؤدى إلى خسارة ما يقرب من تسعين فى المائة من الدخل السياحى. أما السيناريو الأقل تشاؤما يتوقع فقدان ما قدره حوالى 12.5% من الشعاب المرجانية بحلول العام 2100 وهو ما يعنى طبقا للتقرير خسارة حوالى 39.4% من إيرادات السياحة فى المنطقة. ولن يكون التأثير على مصر فقط ولكن على الدول الأخرى المطلة على البحر الأحمر. وطبقا للدراسة فقد يكون التأثير الناتج من النشاط البشرى هو الأخطر على تلك الشعاب المرجانية وبيئتها الهشة والحساسة للغاية.
***
ما تؤكده تلك الدراسة ــ وسبق وأكدته دراسات أخرى عديدة ــ أننا نعتمد على البيئة الطبيعية فى حياتنا واقتصادنا بصورة كبيرة للغاية وهذا يظهر بصفة خاصة فى منطقة البحر الأحمر. وللأسف قد يكون هذا الإدراك الكافى غائبا سواء للمواطنين أو السائحين والأهم للمسئولين. ويتطلب مواجهة هذا التحدى الكبير أولا معرفة جيدة ومتعمقة عن البيئات البحرية الحساسة فى البحر الأحمر وهى ثلاث أساسا: الشعاب المرجانية وغابات المانجروف وحشائش البحر وهى البيئات الأساسية لحياة وازدهار المئات من الكائنات الحية فى البحر الأحمر. وبالرغم من وجود مركز بحثى فى مدينة الغردقة أسسه العالم الكبير الاستاذ حامد جوهر فى أربعينيات القرن العشرين، لكنى لا أدرى مدى الإمكانات المتاحة لهم للرصد الدقيق للبيئات البحرية بالبحر الأحمر ورصد التأثيرات البشرية عليها من خلال الدراسات المعمقة التى يتطلب بعضها التعاون الوثيق مع جهات أخرى دولية. من المحزن جدا بالنسبة لى أن موقف العلماء المصريين فى هذه الدراسات كان من خلال التعليق عليها وليس المساهمة فيها أو فى طرح دراسات أخرى موازية تراجع وتؤكد أو تنفى وتهيئ بذلك لمتخذ القرار سيناريوهات مبنية على بيانات محلية مدققة تفيد فى فهم الواقع والتحوط للمستقبل. لا أدرى مثلا إن كانت هناك دراسة لتأثير المخلفات السائلة لمحطات تحلية المياه فى البحر الأحمر على تلك البيئات الحساسة وبعض تلك المحطات تعمل ربما منذ أكثر من عشرين عاما خاصة فى ضوء خطة الحكومة فى التوسع الكبير فى محطات التحلية. كما أن تأثير صرف المخلفات السكنية السائلة فى البحر غير معروف بدقة، ففى مدينة القصير مثلا حيث لا يوجد صرف صحى عام (هناك مواسير وشبكة لم تدخل الخدمة بعد طبقا لآخر معلوماتي)، وكما ظهر لنا من مقابلة بعض من السكان فى المدينة، فإن بعض المناطق لم يتم نزح البيارات القريبة جدا من البحر منذ أكثر من عشرين عاما. بينما تظهر بعض الطحالب فى البحر التى قد تكون مرتبطة بذلك، ولكن لا يمكن الجزم بدون بحث علمى قائم على عينات وتحاليل. أيضا لا نعرف تأثير صرف المياه الناتجة عن عمليات تركيز خام الفوسفات فى موقع الشركة المطلة على البحر والذى دام لعقود طويلة.
***
أرى فى التقرير الذى يبدو مزعجا جدا ــ وهو كذلك ــ فرصا للعمل على تجنب المخاطر العديدة أو تقليلها إلى الحد الأدنى إذا أخذنا الدراسات العلمية المتاحة بجدية وطورنا عليها قاعدة هامة للأبحاث واسترجعنا قيمة العلم فى إدارتنا للعمران والبيئة. وهذا مجال كبير للبحث والعمل للكثيرين، فالعلماء والباحثون عليهم دور أساسى ومنظمات المجتمع المدنى عليها دور أيضا والمستثمرون والحكومة المحلية والمركزية والسكان. وهناك بالطبع إمكانية للحلول للتعامل مع تدهور الشعاب المرجانية يتم دراستها وتجربتها فى مناطق أخرى، ويجب علينا أن نلحق بتلك الدراسات والتجارب لأننا لن نستطيع أن ننقلها ببساطة ويجب أن يكون لنا القاعدة العلمية والمعرفية والتقنية القادرة على التعامل معها.
ما يمكن أن نفهمه من الدراسة أن البيئة فى البحر الأحمر ــ وبالرغم من الجهود المبذولة للحفاظ عليها ــ تظل فى خطر كبير.. فهل فى ظل هذا التدهور الحالى والمتوقع للشعاب المرجانية والموارد البيئية النادرة فى البحر الأحمر ما زلنا نرغب فى التوسع فى النشاط السياحى أم آن لنا أن نفكر فى أنشطة أخرى أكثر إنتاجية واستدامة.
«إننا نعتمد على البيئة فى كل نفس نتنفسه» كما يقول السير ديفيد اتنبورو بل فى كل شيء وبدون أن نعتنى بها فلا يجب أن نتوقع منها أن تعتنى بنا. المستقبل ليس بعيدا زمنيا للدرجة التى توحى لنا بأنه ما زال هناك فسحة كافية للاستعداد، لأن المستقبل يبدأ الآن.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved