التاريخ يكتبه المتحيزون ويصدقه العوام

محمد عبدالشفيع عيسى
محمد عبدالشفيع عيسى

آخر تحديث: الجمعة 25 فبراير 2022 - 9:00 م بتوقيت القاهرة

التاريخ.. ما التاريخ؟ تتعدد التعريفات، ولكنا نقصد فى مقام اليوم أن التاريخ هو (ذلك الذى يبقى فى الوعى الجماعى بعد أن ننسى ما تعلمناه)، كما قال البعض فى معرض تعريف العقل. تاريخنا هو ما نعتقد أو نظن أنه هو تاريخنا بالذات. هو إذن ليس بالضرورة، التاريخ الذى وقع بالفعل فى الماضى أو سيقع فى المستقبل، ولكنه الذى نرجح وقوعه، دون عناية خاصة بالوقائع المحددة أو ما يجتمع فى صورة واقع معين. بعبارة أخرى، التاريخ قرين الذاكرة. وأما بحث مدى التطابق بين الذاكرة والواقع، بين الوعى المستكن والحقيقة أو الصدق، فتلك قضية أخرى يُعنَى بها (علم التاريخ).

حسْب المعنى الذى قصدناه، نجد من يقول مثلا إن التاريخ يكتبه المنتصرون، وهذا ليس حقا على الدوام، أو ليس صحيحا فى عمومه، أو ليس كله صحيحا وإنهم ليقولون «التاريخ»، وما هو بتاريخ واحد ولكن «تواريخ»، فلكل فريق «روايته» الخاصة للماضى (story) فى ضوء حاضره القائم وتصوره للمستقبل.

لذلك أنصحك أيها القارئ الكريم حين تقرأ شيئا مما يسمى «التاريخ»، أن تمعن النظر فيما قيل وتُنعم هذا النظر فيمن قاله وكَتَب روايته؛ فهو متحيز، غالبا، لهواه أو لمصلحته أو للأمرين معا. وما الهوى سوى تكوين معقد من المشاعر المتولدة من الإيمان العقائدى لشخص أو مجموعة اجتماعية، ومن مصلحة اجتماعية أو تصور للمصلحة، ومن ترسبات «ذاتية» ذات طابع إدراكى معقد تكونت وتعاقبت طبقاتها «الجيولوجية» المتراكمة عبر الزمن. ومن ثم فإن «الرواية السائدة» من بين «روايات أخرى» هى محصلة لمزيج معقد من المدركات الذاتية، والمصالح المتصورة، والرؤى العقائدية.

وهل تظُنن مثلا أن ما عرفناه أو قرأناه عن أحوال سائدة فى العصور القديمة وبعض بلدانها هو حقٌ كله أو صحيح؟ علما بأن الحق والصدق فى الوقائع الاجتماعية، من قبيل الأمور ذات «الطابع النسبى» فى كل حال. وهذا ليس فقط بسبب المزيج المعقد من المشاعر والمصالح والعقائد، ولكن أيضا بسبب نقص المعلومات، وتخلف علم الآثار والحفريات (الأركيولوجيا) برغم الجهود المبذولة فى حقل «أركيولوجيا المعرفة»، كما أشار (ميشيل فوكو). ثم قد يكتب التاريخَ فريقٌ منتصر كما أشرنا فى البدء، ولكن يمكن أن يكتبه أيضا فريق مهزوم يتمتع بملَكة «الرواية» ــ الحكى أو «القص» وبشىء من المقدرة على «إنفاذ» رؤيته بين «العموم» ــ أو فى شطر مؤثر من هذا العموم، كما يقال فى بعض أدبيات علم الاجتماع الحديثة.

 

• • •

 

إن لكل جماعة اجتماعية «حكاؤوها» المتفننون، بالحق (النسبي) أو بالباطل (النسبى أيضا)، كما لدى الجماعات المسماة «العرقية» التى نصادف حكائيها هذه الأيام فى كل مكان من مشرقنا ومغربنا العربى العتيد، وعلى امتداد «المنطقة العربية ــ الإسلامية المركزية»، وما حولها فى آسيا وإفريقيا، وكذا فى عالم الأمريكتيْن وما حولهما فى المحيط. ويجْهَد «الحكاؤون» فى كلٍ من هذه الجماعات الاجتماعية على اختلافها، من أجل خلق أو «اختلاق» تاريخ، تثبت بها روايتها السائدة، والتى قد تكون باطلة من الأباطيل، بمعيار «التاريخ الإنسانى» القويم. ولعل من أوضح الأمثلة على ذلك: اختلاق «إسرائيل القديمة» من باطن بعض الروايات التوراتية غير المُثبَتة على الأقل، فى محاولة عقيمة لإثبات صحة رواية إنشاء (إسرائيل) تلك الجديدة والقائمة اليوم وحتى يوم قادم قريب.

أما الجماعات المسماة «العرقية»، المنبعثة حديثا فى ظروف فريدة ربما معلومة، فى قلب عملية التوظيف السياسى الجارية. من الجميع على قدم وساق، فإنها بازغة من بين أحشاء التركيبات الجيولوجية للأمم والشعوب الحاضرة وهى كثيرة الآن، قائمة بين ظهرانينا عربيا، وعلى امتداد «المنطقة العربية ــ الإسلامية المركزية» و«العالم الإسلامى»، تحيط بنا رواياتها المتضاربة من كل جانب. ولسوف أنزع ما يسمونه «الحساسية» المفرطة، لأَذكر طرفا من الروايات (الأمازيغية) و(الكردية) بل و(الأشورية) و(الفينيقية) وما إليها. تلك التكوينات المسماة بالعِرْقية، فيما يتعلق بالجانب العربى، هى تكوينات تاريخية محقة، دخلت فى خضم عملية التكوين التاريخى الأشمل للأمة العربية (حتى لو كانت فى رأى البعض «أمة قيد اكتمال التكوين»)، فى إطار استكمال الكيان السياسى والاقتصادى العربى.. ثم إن هذه التكوينات العريقة بقيت قائمة داخل الأمة على نحو أغْنى، لتصير ذاتيتها جزءا لا يتجزأ من البنيان العربى القومى الأشمل، دون تناقض مفتعل بين الجزء والكل، ولا بين الانتماءات الفرعية والانتماء الرئيسى الضام.

نشير أيضا، على سبيل عرض التوظيف السياسى للتاريخ أيضا، من مثال قريب، إلى أنه حدث نوع من الانقسام «العمودي» و«الأفقى» العميق، بين أفراد شعبنا العربى فى مصر، عبر نصف القرن الأخير، من النُخَب ثم من الجمهور العام، بين فريقين: فريق (تفرغ) تقريبا للترويج لرواية سياسية جارية تقول إن (السادات بطل الحرب والسلام) و(سابق عصره)، بينما يشيعون أن الرئيس جمال عبدالناصر كان مجرد «عسكرى»، و«مستبد»، و«عدو للأغنياء».. وفى المقابل، يبرز جمال عبدالناصر مؤسسا للمسار الوطنى التنموى لمصر العربية المعاصرة، قاعدة لحركة التحرر العربى المعاصر وقيادة، برغم ثغرات وأخطاء.

هذا مثال نذكره عرَضا، ويدى على قلبى، وأصابعى مرتعشة، من فِرْط تداعيات الانقسام بين روايتين لفريقين: رواية شبه سائدة، تتغلغل بين شطر من النخبة ومن العموم»؛ هى رواية «ساداتية» إن صح التعبير، بلغت لدى البعض مبلغ القول مثلا إن حرب أكتوبر هى (حرب السادات!) متجاهلة عن عمْد كل ما هو غير ذلك، أو ما هو عكس ذلك، ورواية أخرى، فى المقابل، مهمشة عمْدا إلى حد بعيد، ترى فى جمال عبدالناصر عكس ما يرى ذوو الرؤية التأريخية (الساداتية)، فيكون عبدالناصر الزعيم العربى «التاريخى» الفذ الذى لم يظهر له نظير منذ مئات السنين. وانظر للمقارنة فى أمر مشابه، بين صورة (محمد على باشا) فى الذاكرة الجمعية للعرب عموما بمن فيهم الشعب المصرى، فستجده (مؤسس الدولة الحديثة) فى مطالع القرن التاسع عشر، وبين صورته لدى شطر من المؤرخين الثقات (مثل خالد فهمى فى كتابه «كل رجال الباشا») باعتباره مؤسس امبراطورية عسكرية وقودها الناس ــ من الفلاحين ــ والحجارة، كما فهمنا، وهذا ما نميل إليه على كل حال.

فى هذا السياق، شرع الجادون من بعض رجال الصحافة الأفذاذ تنقيبا فى الأضابير وبين دفاتر الأحداث الجليلة سعيا إلى استجلاء طرف أو أطراف من الحقيقة الغائبة (مثل ما فعل محمد حسنين هيكل فى سجل «التاريخ» المصرى المعاصر من بعد ثورة 23 يوليو 1952)؛ بينما هزل الهازلون بلا وجل، وهم كُثْر.

• • •

ولكن فليقلْ كلٌ ما يراه، ولْتتعدد الروايات لا بأس، ولْتكتب (التواريخ)، ولْينشط الحكاؤون، ولتتوسع وتتعمق كتابة «المدونات الأكاديمية» المطولة أو المختصرة، عالميا وعربيا ــ مصريا، حتى لو كانت من (أرنولد توينبي) أو (وُل ديورانت) أو من عبدالرحمن الرافعى مقابل محمد أنيس، وبينهما محمد عزت عبدالكريم، وحتى لو كانت من الراحل (عبدالعظيم رمضان) مقابل (على بركات) مثلا، أطال الله بقاءه.

وقد كان هذا هو الشأن دائما: تضارب فى الروايات، وتحيز أو انحياز متفاوت: بين انحياز أعمى وانحياز بصير، ويجد كل منهما مجالا للتصديق بين العامة، فى السوق الواسعة للأفكار. ولسوف يظل الأمر كذلك إلى أمد غير معلوم.

ولكن إلى متى..؟ متى يظهر (التاريخ ــ التاريخ)؟ هذا ينقلنا نقلة واسعة إلى «علم التاريخ» الذى لم يستوِ عوده الممشوق بعد، برغم ضرورته، وبرغم طول فترة حضانته المديدة لآلاف السنين، منذ صحائف مصر القديمة والعراق القديم مرورا بهيرودوت حتى اليوم. 

لقد تقدمت منهجية البحث التاريخى تقدما لافتا، ولكنها لم تتزود تزودا كافيا بأمرين: أ ــ مادة التاريخ الحية والميتة، المكتوبة والشفاهية، والمصادر الموثقة، فى ضوء فتوحات علم الآثار وبحوث الحفريات والأنثروبولوجيا؛ مع الأخذ فى الاعتبار أنه (بين سلطة العلم وسطوة الهوى خيط رفيع). بالمؤرخ الصادق الأمين، المؤهَل بما ينبغى له حقا.

وما بين التاريخ الذى نعيه فى داخلنا، وعلم التاريخ الذى نرنو إليه، يجب أن ينهض المعنيون بمادة البحث وبمناهجه وأعلامه المبرزون.

ولسوف نظل نتأرجح عبر الزمن بين التاريخ وعلم التاريخ؛ آملين أن يتقدم العلم رويدا رويدا، جزئيا ونسبيا نعم، من أجل أن يحل العلم، بأريحية، محل ركام الأساطير.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved