معركة روسيا الممتدة مع الغرب

عزت سعد
عزت سعد

آخر تحديث: الجمعة 25 فبراير 2022 - 8:55 م بتوقيت القاهرة

فى صباح 24 فبراير الجارى، أعلن الرئيس الروسى فلاديمير بوتين أنه قرر القيام بعملية عسكرية «خاصة» فى إقليم دونباس (شرقى أوكرانيا)، مشيرا إلى أن بلاده لا تخطط لاحتلال الأراضى الأوكرانية.

وعلى حين أوردت وسائل الإعلام الروسية أنه تم تحييد القوة الجوية الأوكرانية وتدمير عدة قواعد عسكرية فى الإقليم، أكدت كييف أنها كبدت القوات المهاجمة خسائر فى الأرواح والمعدات. وكان الرئيس الأوكرانى قد أعلن حالة الطوارئ فى جميع أنحاء البلاد منذ 23 فبراير الجارى. وقد لقى إعلان بوتين عن العملية العسكرية ردود فعل واسعة من دول الغرب التى أدانتها بشدة، وتعهد الرئيس الأمريكى بمحاسبة روسيا، وأكد الاتحاد الأوروبى أنه سيفرض عليها عقوبات غير مسبوقة. وأُعلن عن اجتماع طارئ لحلف شمال الأطلنطى، والتقدم بمشروع قرار سيطرح على مجلس الأمن يدين روسيا، وهو أمر مستبعد بسبب الفيتو الروسى (تتولى روسيا الرئاسة الشهرية لمجلس الأمن حاليا)، ومن ثم تذهب الأزمة إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة التى بدأت بالفعل فى مناقشتها.

لم يكن قرار بوتين بعملية عسكرية «خاصة» مفاجأة، خاصة فى ضوء قراره الاعتراف بالإقليمين الانفصاليين دونيتسك ولوجانسك كجمهوريتين مستقلتين فى 21 فبراير الجارى وتصديق البرلمان الروسى فى اليوم التالى على قرار الاعتراف والتصديق على معاهدة صداقة وتعاون متبادل بين الجمهوريتين وروسيا، تنص على الدفاع المشترك وتدابير لحماية حدود الجمهوريتين وحق الاستخدام المتبادل للبنية التحتية والقواعد العسكرية على أراضى بعضهما البعض. وفى قرار الاعتراف، أمر بوتين بنشر قوات لــ«حفظ السلام» فى الجمهوريتين، وهو ما كان بمثابة تمهيد للعملية العسكرية، خاصة وأن الانفصاليين الذين تدخلت روسيا لدعمهم لا يسيطرون سوى على نسبة 30% من المساحة الإجمالية للإقليمين وبالتالى فالتدخل العسكرى كان لتحرير المساحة الباقية التى تنشط فيها جماعات يمينية متطرفة معادية للأوكرانيين من ذوى الأصول الروسية على نحو ما ألمح بوتين فى خطابه المطول فى 21 الجارى الذى أعلن فيه الاعتراف بالإقليمين كجمهوريتين مستقلتين.

• • •

المتأمل للتصريحات الأخيرة للمسئولين الروس، لابد وأن يستخلص نقطتين رئيسيتين هما: أن النظام الحاكم فى كييف جاء بانقلاب، وأن أوكرانيا لا تنفذ اتفاقات منسك التى تعطى للأقليات الروسية فى الإقليمين الانفصاليين حقوقا وضمانات تحميها. ويعنى ذلك أن موسكو أمام أحد خيارين: إما أن يكتسب النظام فى كييف الشرعية من خلال تنفيذ اتفاقيات منسك، أو أن تقوم روسيا بتسوية مشكلة وجود حكومة غير شرعية على حدودها. ولما لم تتمكن روسيا من بلوغ النتيجة التى أرادتها بالوسائل الدبلوماسية، فقد صعدت من حشدها العسكرى بالقرب من الحدود مع أوكرانيا بما يضع الغرب فى حالة توتر، ويجبر كييف والغرب فى نهاية المطاف على تبنى نهج أكثر مرونة فى التعامل مع مطالب روسيا وأهمها ضمانات موثوقة بعدم تمدد حلف شمال الأطلسى شرقا وسحب الصواريخ القصيرة المتوسطة المدى من بلدان شرق أوروبا القريبة من روسيا وإعادة صياغة الأمن الأوروبى بما يلبى احتياجات روسيا الأمنية.

والحقيقة أن قرار الرئيس بوتين التدخل العسكرى فى شرق أوكرانيا يضع، من الناحية العملية، نهاية لاتفاقات منسك التى استهدفت إنهاء الصراع فى هذه المنطقة، والتى كثيرا ما اتهمت موسكو كييف والغرب بالفشل فى تنفيذها. وفضلا عن ذلك، وهو الأهم، أغلق هذا التدخل باب النقاش ــ على الأقل فى الوقت الحالى ــ أمام مطالب روسيا الأساسية على النحو السابق الإشارة إليه. ومن المنظور الغربى، باتت أولوية الأولويات الآن وحدة أراضى أوكرانيا، على حساب القضايا التى اعتبرت أولويات فى السابق (الصواريخ المتوسطة المدى فى أوروبا، ضبط التسلح، اتفاقيات منسك، وهواجس روسيا الأمنية). ويعلق بعض الكتاب على الموقف الغربى من اتفاقيات منسك بالقول بأنه لم يفعل شيئا يذكر من أجل أمن أوكرانيا، وإنما كان تركيزه على تقديم نفسه بوصفه المنتصر المطلق فى الحرب الباردة، وأن هذا هو الوضع الذى تتحداه روسيا باستخدام القوة. وهنا يكمن التعنت الغربى، أو كما وصف وزير الخارجية الروسى لافروف اجتماعه بنظيرته البريطانية – فى مؤتمر صحفى فى موسكو بعد لقائه بها فى 10 الجارى ــ بأنه «كحوار أبكم مع أصم.. نسمع ولكننا لا ننصت». ولقد عكست كلمة الرئيس الأوكرانى زيلينسكى أمام مؤتمر ميونخ للأمن فى 20 الجارى قدرا كبيرا من خيبة الأمل إزاء الموقف الغربى من الأزمة، ملقيا باللوم على «الأنانية والثقة بالنفس وعدم مسئولية الدول الكبرى، ونتيجة لذلك يرتكب البعض جرائم، ويبقى البعض الآخر غير مبال... اللامبالاة التى ينجم عنها التواطؤ»، وأضاف: «أوكرانيا كانت درع أوروبا لمدة ثمانى سنوات... ومع ذلك، لم يفتح باب الاتحاد الأوروبى والناتو أمامها، وبدت الوعود بحماية السيادة الأوكرانية المنصوص عليها فى مذكرة بودابست عام 1994 عديمة الجدوى». ودعا الرئيس الأوكرانى الغرب إلى إرسال المزيد من الأسلحة وفرض عقوبات وقائية فورية على موسكو، قائلا: «ماذا تنتظرون؟ لسنا بحاجة لعقوباتكم ضد روسيا بعد أن يبدأ القصف علينا».

• • •

ومن جانبه بدا الرئيس بوتين، وبعد أقل من شهرين على الذكرى الثلاثين لانهيار الاتحاد السوفيتى فى ديسمبر الماضى، والذى ستحل مئوية إنشائه فى ديسمبر 2022، مصمما، وبطريقته الخاصة، على وضع نهاية للتراجع الجيوسياسى لروسيا، الذى بدأ قبل ثلاثة عقود، وهو الأمر الذى ينظر إليه العديد من الكتاب الغربيين على أنه رغبة محمومة لدى بوتين باستعادة الاتحاد السوفيتى السابق. وعلى عكس هذه الرؤية تشير القيادة الروسية إلى أنها معنية بتأكيد ذاتها كقوة رئيسية هامة على طول حدودها الجديدة، وأنه من خلال إظهار قدراتها العسكرية وتصميمها السياسى على التدخل، تطمح فى استبدال النظام الأمنى الأوروبى الحالى القائم على هيمنة الولايات المتحدة والدور المركزى لحلف شمال الأطلسى. وصحيح أن أوكرانيا هى خط المواجهة فى هذه الأزمة، إلا أن بوتين لا يرى فيها قضية ثنائية بين موسكو وكييف، وإنما فرصة لردع الولايات المتحدة عن قبول أوكرانيا عضوا فى حلف شمال الأطلسى أو نشر أسلحة هجومية مثل الصواريخ على أراضيها والاعتراف بمصالح روسيا.

لقد أظهرت الأزمة استعداد روسيا– وللمرة الأولى منذ نهاية الحرب الباردة– لاستخدام القوة العسكرية لمنع المزيد من التوسع من قبل التحالف الغربى فى الفضاء السوفيتى السابق. وبطبيعة الحال، يدرك بوتين أن استراتيجيته هذه محفوفة بالمخاطر، إلا أنها يمكن أن تنجح، ولو جزئيا، فى ضوء الأوضاع الداخلية فى الولايات المتحدة وعدم وجود مصلحة، أو حتى نية، لديها، أو أى من حلفائها، فى محاربة روسيا على الأراضى الأوكرانية.

أخيرا ستكشف الأيام القادمة على من يعوّل بوتين فى قراره بالتدخل العسكرى، وهل سيتوقف عند حدود الإقليمين أم سيمضى إلى ما هو أبعد، وإلى أى مدى سيصل رد الفعل الغربى على ذلك، وماذا سيكون عليه موقف الصين التى لم تعترف بضم شبه جزيرة القرم ولا بجمهوريتى «ابخازيا» و«اوسيتيا الجنوبية»، اللتين أعلن بوتين الاعتراف بهما كجمهوريتين منفصلتين عن جورجيا فى أغسطس 2008. ففى ذلك العام وجّه الرئيس الأمريكى بوش الابن دعوة لميخائيل ساكاشفيلى رئيس جورجيا آنذاك (المسجون حاليا فى قضية فساد) لحضور قمة حلف شمال الأطلسى فى بوخارست الأمر الذى اعترض عليه كل من ميركل وساركوزى مما دعا بوش إلى صرف النظر عن الدعوة. وها نحن نرى السيناريو ذاته يتكرر فى أوكرانيا. وفى التقدير لن يختلف الموقف الصينى هذه المرة، رغم شدة التنافس الاستراتيجى الأمريكى الصينى والإعلان المشترك الذى صدر عن قمة شى شينبنج وبوتين، على هامش حضور الأخير افتتاح دورة الألعاب الشتوية فى بكين فى 4 فبراير الجارى والذى انطوى على دعم سياسى صينى للموقف الروسى ومطالبة الغرب بأخذ مصالح موسكو الأمنية فى الاعتبار.

 ويدرك الرئيس بوتين أن معركته مع الغرب ممتدة، وأن عليه خوضها وحده، وهو ما يتبدى بوضوح فى استراتيجية الأمن القومى الروسية التى صدرت فى يوليو الماضى، والتى تركز بالأساس على عملية إعادة البناء الداخلى اقتصاديا وعسكريا، والتأكيد على العودة إلى القيم الروسية التقليدية والأهمية الحاسمة لقضايا مثل التكنولوجيا والمناخ. وتنطلق الاستراتيجية من رؤية روسية لعالم يمر بمرحلة تحول واضطراب، وأن هيمنة الغرب بقيادة الولايات المتحدة تتآكل وهو ما يؤدى إلى مزيد من الصراعات الأكثر خطورة، حيث سيقاوم الغرب – وفقا للاستراتيجية ــ بضراوة أكبر مع تراجع هيمنته.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved