المغالطة الأوكرانية

تميم البرغوثى
تميم البرغوثى

آخر تحديث: الثلاثاء 25 مارس 2014 - 6:30 ص بتوقيت القاهرة

انقسم العرب بشأن الأزمة الأوكرانية بين مؤيد ومعارض، وفى الكثير من الأحيان، كانت الفئتان تؤيدان أو تعارضان لغير الأسباب الصحيحة. فقد افترض الاثنان أن ما يجرى هناك شبيه بما جرى عندنا، وأن ميدانهم كمياديننا، فمن أيد ثورات العرب أيدهم ومن رفضها رفضهم، وكلا الموقفين خاطئ، لأنه لا شبه بين كييف فى 2014 وتونس والقاهرة فى 2011.

إن من حق أى مجموعة بل أى فرد أن يطالب حكومة منتخبة أو رئيسا منتخبا ديمقراطيا بالاستقالة أو بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، ولكن ليس من حقهم أن يخلعوه بالقوة، وإلا أصبح الأمر انقلابا وإلغاء لمبادئ التبادل السلمى للسلطة وإعلان حرب على ناخبيه.

•••

إن ملء الميادين بالمتظاهرين يجوز أن يكون وسيلة للتعبير عن الرغبة الشعبية إن كان نظام الحكم لا يسمح بإجراء انتخابات ديمقراطية، أو كان يسمح بالانتخابات ولكن لا يوفر للناس حقوقهم فى التعبير والتنظيم السياسى والدعوة لرأيهم أثناءها. عندئذ وعندئذ فقط يجوز أن يكون ملء الشوارع بالمتظاهرين بديلا اضطراريا عن الانتخابات. وحتى فى هذه الحالة فإن التظاهر ينبغى أن يكون سلميا، وسيلة تواصل وإقناع إذا شئت، بين المتظاهرين فى الشوارع وبين الناس فى البيوت، والهدف منه بناء إجماع شعبى، أو أغلبية شعبية، تطالب بتغيير نظام الحكم، الميدان هنا بديل عن الإذاعة. إن المتظاهر حين يهتف « الشعب يريد إسقاط النظام» لا يقرر حقيقة واقعة فى أول الأمر، بل يهتف بأمنية يدعو سائر الناس الباقين فى بيوتهم لأن يحققوها، كأن الهتاف الضمنى هو : «أنا المتظاهر فى الشارع أدعوكم أيها الناس فى البيوت لأن تشاركونى إرادتى فى إسقاط النظام، أو على الأقل أن لا تعارضوا إرادتى هذه». والثوار يتحملون الملاحقة والاعتقال وإطلاق الغاز والرصاص عليهم فى الشوارع لكى يوصلوا أصواتهم للآمنين فى بيوتهم ويقنعوهم بمظلوميتهم وعدالة قضيتهم. فإن اقتنع الماكثون فى البيوت وخرجوا مع المتظاهرين، ظهر إجماع الناس على خلع الحاكم، وإن أجمع الناس، فلا حاكم.

•••

والشعوب تعرف أنفسها، بعضها أسهل إجماعا من بعضها. فالشعوب ذات الطوائف والأعراق المختلفة، يصعب فيها الوصول للإجماع، اللهم إلا ضد غازٍ أجنبى. فإن كان المتظاهرون من طائفة عرقية أو دينية أو لغوية، وكان الماكثون فى بيوتهم من المحايدين أو مؤيدى النظام من طائفة أخرى، صعب على الأولى إقناع الثانية مهما تحملت من المظالم. إن بعض الطوائف المسيحية فى لبنان عام 1975 لم تكن ترى فى الفلسطينيين وحلفائهم اللبنانيين إلا مسلمين سنة مسلحين، رغم أن اثنين من قادة الفصائل الفلسطينية الكبرى كانا مسيحيَّين، ورغم أن الدروز والشيعة والمسيحيين الأرثوذكس وحتى بعض الموارنة، كانوا فى صف الفلسطينيين. ولم تفلح مظلومية الفلسطينيين ولا حلفائهم من الفئات الأفقر والطبقات المستضعفة اللبنانية فى إقناع أغلبية الطائفة المارونية المتوجسة منهم بإسقاط نظام الحكم الظالم فى لبنان آنذاك، كان كثيرون من الموارنة يرون فى ذلك النظام ضمانة لهم وفى غيابه تهديدا. ولا يختلف الأمر كثيرا فى سوريا اليوم، حيث ثم طوائف ترى فى بقاء النظام الحاكم ضمانة لبقائها، ولا تؤثر فيها مظلومية الآخرين. فإن سعى الساعى عندئذ لإسقاط النظام بالقوة اعتبرته طوائف المؤيدين محاربا لها، فتقع الحرب الأهلية.

لذلك فإن تشبيه ما جرى فى أوكرانيا بما جرى فى مصر عام 2011 مثلا لا يستقيم. فحسنى مبارك لم يكن منتخبا ديمقراطيا قط، ولم تتوفر فى أية انتخابات جرت فى عهده حرية التنظيم والتعبير الضرورية لاعتبار انتخابه شرعيا، حيث كانت أكبر جماعة معارضة فى البلاد محظورة وممنوعة من تكوين حزب سياسى ومن المنافسة على منصب رئاسة الجمهورية. أما فى أوكرانيا فقد كان الرئيس منتخبا ديمقراطيا، وكان من الممكن نظريا إسقاطه فى الانتخابات القادمة. وفى مصر كان ثم إجماع على إسقاط مبارك، فحتى حلفاء الحزب الوطنى التقليديون كحزب الوفد كانوا قد ضحِّى بهم فى انتخابات العام السابق على الثورة، ولم يبق مبارك ولا حزبه لأنفسهم صاحبا، وأنهت المواجهات بين النظام والمسيحيين فى العمرانية ثم تفجير كنيسة القديسين أى تعاطف له فى صفوفهم. أما فى أوكرانيا فهناك انقسام بين مجموعتين لغويتين، بين الناطقين بالروسية وبين سائر الأكرانيين، والناطقون بالروسية فى شرق البلاد وجنوبها مؤيدون للرئيس المنتخب ويرون فيه ضمانة لأمنهم، فأن لم تكن تلك الضمانة نابعة من وجوده بشخصه فى سدة الرئاسة، فإنها على الأقل، نابعة من كون الرئاسة تنتقل بشكل سلمى وديمقراطى، فتحميهم من التوتر بينهم وبين الفئة الأخرى من الشعب. لذلك فإن خلع الرئيس الأوكرانى بالقوة وعن غير طريق الانتخابات، هو بمثابة إعلان حرب وافتئات على من انتخبوه وعلى الفئات التى تؤيده.

•••

إن محاولة الإطاحة بالنظام السورى والليبى أنتجت حروبا أهليا لأن هناك طوائف فى سوريا وقبائل فى ليبيا لم تكن تريد هذه الإطاحة، على أن الحكومتين فى سوريا وليبيا لم تكونا منتخبتين ديمقراطيا. أما فى لبنان بعد حرب عام 2006، وبعد موقف الحكومة اللبنانية الرديء إذ وقفت على الحياد فى حرب تشنها إسرائيل على شعبها، فإن المقاومة اللبنانية طالبت، محِقَّة، بإسقاطها، ودعت لحشود ضخمة فى ميادين بيروت وبقى اعتصامهم فى الميادين شهورا طوالا. ولم تكن حكومة فؤاد السنيورة وقتها منتخبة بل معينة. وبالرغم من ذلك، كان لدى المقاومة اللبنانية من الحكمة ما يثنيها عن إطاحة تلك الحكومة بالقوة لمعرفتها بأن ثم طوائف من اللبنانيين لن ترضى بذلك وأنه قد يجر البلاد للحرب الأهلية. وحين فشلت فى إقناع الطوائف الأخرى بضرورة تغيير الحكومة وجاءت الانتخابات التالية لصالح فريق السنيورة رضيت المقاومة بنتائجها ولم تستخدم القوة إلا حين حاولت تلك الحكومة تجريدها من سلاحها.

•••

أقول إن ما جرى فى أوكرانيا لا يشبه مصر وتونس عام 2011 فى شيء، بل يشبه سوريا والبحرين، فى أن فئة من الناس حاولت تغيير نظام الحكم دون التوصل لقدر مقبول من الإجماع. وإن كان لا بد من تشبيهه بحدث مصرى فهو بالطبع مطابق لما جرى فى الثلاثين من يونيو عام 2013، فى أن فئة من الناس أطاحت برئيس منتخب على الرغم من إرادة الفئات الأخرى، ونحن جميعا نعرف إلى أى «نعيم» و»أمن» و»استقرار» و»حرية» أدى ذلك!

فإذا انقسم الشعب، انتهت قدرته على تقرير مصيره، بل أصبحت بلاده ساحة للمصالح الدولية. فإذا تحولت أوكرانيا لساحة منافسة بين روسيا والولايات المتحدة، فلا يمكن أن تكون المصلحة العربية فى ازدياد تسلط الولايات المتحدة. إن كسر احتكار واشنطن للقوة فى العالم والانتقال نحو عالم متعدد الأقطاب مصلحة للعالم الثالث كله لا العرب وحدهم. وإن كانت الإدارة الأمريكية اليوم حكيمة نسبيا وممتنعة حتى الآن عن المغامرات العسكرية، فنحن لا ندرى بأى إدارة سنبتلى غدا. ونحن أكثر من غيرنا رأينا ما يمكن أن ينتجه احتكار واشنطن للسلطة فى العالم من مظالم فى العراق، فيقتل الملايين من أجل كذبة لرئيس أمريكى يريد إثبات ذاته أمام أبيه، ويقصف البلد ويقتل الناس لأن رئيسا أمريكيا آخر خان زوجته ويريد أن يتفادى تحقيقا حول تلك الخيانة فى الكونجرس.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved