الشيوعية والطبقات

رجائي عطية
رجائي عطية

آخر تحديث: الأربعاء 25 مارس 2020 - 10:25 م بتوقيت القاهرة

تاريخ الإنسانية فى رأى الماديين المفسرين للتاريخ ـ هو تاريخ الطبقات المتوالية، والعامل الحاسم فى تكوينها ــ فى نظرهم ــ هو وسائل الإنتاج، فمن يملكها هو سيد المجتمع على قدر ما يملكه، وكل الشرائع والعقائد والآداب والعادات مُسخرة فى خدمة مصالحه وأغراضه، بقصد أو على غير قصد.
ومعاول هدم هذا النظر كامنة فيه، ويستدل العقاد على ذلك بمثال تدجين النبات والحيوان، فقد تم ذلك قبل أن تظهر فيه طبقة تستغل الطبقات الأخرى، وجرى هذا التدجين على خطوات متعاقبة، كان أولها صيد الحيوان للانتفاع بلحومه وجلوده، ثم تلاه صيده للانتفاع بألبانه وأصوافه، ثم للانتفاع به فى الزرع والحرث والانتقال وحمل الأثقال.
وتمت هذه الأطوار الهامة قبل نشوء الطبقة، ولذلك فليس من الحتم أن تكون الطبقة هى التفسير الوحيد للأطوار السابقة لها واللاحقة عليها، وهذا أدعى حين تلتبس العوامل والأسباب كما يقول «انجلز» فى كتابه عن فلسفة «فيورباخ» (وهو فيلسوف ألمانى، له آراء فى نقد المسيحية استيحاء من جوهرها)، وهو ما اتفقت معه آراء «ماركس» الذى مات قبل أن يكتبها.
ويستخلص الأستاذ العقاد من ذلك أن أطوار التاريخ قبل القرن التاسع عشر لم تكن قاطعة فى الدلالة على سبب وحيد ـ فى تفسير الطبقات ـ لا يسمح بافتراض سبب آخر سواه، وذلك لاستحالة الفصل بين المقدمات والآثار.
ومعنى ذلك أن النظرية المراد قلب الكون على أساسها ـ قائمة على مجرد ملاحظات محصورة فى الثلاثين سنة الأخيرة من تاريخ الإنسانية، ومن الجائز جدا أن يظهر فى أعقابها ما يناقض ما اعتسفه الماديون.
ويضيف العقاد إلى دلالة التدجين، أن الملاحظات المستمدة من الثلاثين سنة الأخيرة من تاريخ الإنسانية، مشكوك فيها قبل سنة 1815. هذا إلى أن الملكية لذاتها ليست عاملا حاسما فى تكوين الطبقة، فقد يقيم الفقير الأجير فى كوخ يملكه، بينما يقيم صاحب المصنع الثرى فى قصر يستأجره ولا يملكه، والملكية الحاسمة هى ملكية الوسائل التى تنتج ضرورات المعيشة.
كما أن الثروة لا تتوقف على «وحدة المصادر» التى تنتج الثورة، فالطبيب والمحامى والمهنيون بعامة تتنوع وتختلف مصادر دخلهم ومن ثم ثرواتهم، بينما هم من طبقة واحدة، وهذا يثبت أن العلاقات الاقتصادية فى تكوين الطبقات أهم من مصادر الكسب ومن المورد.
ويتعقب الأستاذ العقاد تفسير الماديين للتاريخ القائم على أن الإنسانية مرت بسبعة أدوار منذ قيام الجماعات أو المجتمعات الاقتصادية. الدور الأول: دور «الشيوعية البدائية» وكانت الملكية الخاصة فيه مجهولة، والدور الثانى: دور «البربرية السفلى»، وفيه ظهر الحديد وصارت له قيمة تجارية أو استغلالية، والدور الثالث: دور «البربرية العليا»، وفيه ظهر الزيت والخمر مع الحديد والمعادن، وانقسم فيه المجتمع إلى أغنياء مستكفين وفقراء يحتاجون إلى ما فى أيدى الأغنياء، والدور الرابع: دور «السادة والأرقاء» وفيه ظهر العبد المسترق إلى جوار الفقير المدقع، ثم كان الدور الخامس متمثلا على أتمه فى نظام الدولة الرومانية؛ حيث قام معظم العمل على كواهل الأرقاء، ثم كان دور الإقطاع وساعد على قيام سيادة البرابرة على الدولة الرومانية، وجاء الدور السادس: دور «رأس المال الأول» وغلبت فيه التجارة على الصناعة والزراعة، وتلاه دور رأس المال فى عهد الصناعة الكبرى، وهو الدور الذى يبلغ فيه الاستغلال أتمه ويبلغ فى ذات الوقت نهايته المحتومة، وتقوم بعده طبقة واحدة لا تستغل غيرها ومن ثم لا تقوم إلى جانبها طبقة أخرى.
ويقيم هؤلاء الماديون تصورا لسقوط دولة رأس المال، باجتماع الثروة كلها فى قبضة آحاد معدودين، مع بقاء الكثرة الساحقة محرومة وبلا مصلحة لها فى الصناعة الكبرى، فتثور هذه الكثرة على أصحاب الأموال وتهدم أركان المجتمع القائم، وتصل الأمور إلى ذروتها متى صارت الطبقة الحاكمة «منفردة» معزولة أمام الجموع الزاخرة التى تئن تحت وطأتها، فتأتى الخاتمة الحتمية بنهاية الطبقات وبداية العهد الأبدى الذى لا طبقات فيه!.
فما وزن هذا كله فى نظر العقاد؟
***
لم يشأ الأستاذ العقاد أن يبدى رأيه فى صواب هذه الآراء، أو خطئها، قبل الإشارة أولا إلى علاقتها بالظواهر النفسية، التى يراها مؤثرة فى أصول المذهب الماركسى وفروعه.
ويثنى بأن الطبقة فى تعريف «كارل ماركس» هى الطائفة التى لها مصالح متعارضة مع مصالح طبقة أو طبقات غيرها.. وأن هذا هو البرهان أو المعيار.
فهل لابد إذن من فرض العداوة بين الطبقات حتى تكون طبقات؟!.. ثم هل يحتاج الإنسان إلى بديهة عميقة ليعرف أن الناس يختلفون بغير أن تكون هناك طبقات، وهل تمنع الطبقة الواحدة من أن يختلف أفرادها على نحو ما، وأنه ليس بشرط أن يتطابقوا حتى يميزوا أو يصنفوا فى طبقة واحدة بقالة إن مصالحها متعارضة مع غيرها من الطبقات أو غير الطبقات؟!
تفاوت الأعمال فى الكفاية والأهمية والتنازع من حولها ـ قائم وموجود بلا تصنيف بالحتم إلى طبقات، وذلك يوضح خلل الميزان الذى اعتمد عليه «ماركس» فى تعريف الطبقة!.
وجدير بالذكر أن «كارل ماركس» لم يصنع شيئا لنفى هذا التفاوت أو هذه الفوارق بين الناس فى الكفاية والأهمية، ذلك أنه من المحال أن تئول كل وسائل الإنتاج إلى أيدى طبقة واحدة حتى ولو زالت جميع الطبقات التى عرفت فى تاريخ الإنسانية!
* * *
بعد أن يبدى العقاد هذه الملاحظة، يعود إلى الدعوى العلمية فى أصول المذهب الماركسى وفروعه، فيؤكد أن علماء «الأنثروبولوجى» لم يثبتوا فرضا من الفروض التى افترضها «ماركس»، ولم يذكروا ولو مجتمعا واحدا من المجتمعات البدائية خلا من الملكية الخاصة، هذا إلى أن كنوز الثروة الأرضية فى حيازة المجتمع كله بما يمنحه حق الإذن فى استغلالها، كما أن السلاح الموقوف على الدفاع العام لا يملكه فرد أو جماعة بغير إذن المجتمع أو الدولة، ولم يذكر علماء الإنسان عهدا حرمت فيه الملكية الخاصة بالنسبة للثروات العامة، وإنما تركت الحضارات المترقية تنظيم ذلك حسب الحاجة والرغبة والقدرة عليها.
ويقفى الأستاذ العقاد بأنه أيا كان المرجع فى النظم، فإنه لا الخير ولا العقل يسيغان أن نتصور أن الاستغلال وجد لأن أناسا أرادوه! فلم يوجد الاستغلال لأنه رغبة مستجابة، وإنما لأنه قدرة يستطيعها أناس ولا يستطيعها آخرون.
هذا ولا يتسع طوافنا بمدينة العقاد إلى إيراد كل الحجج التى أوردها فى هذا المقام، فقد أورد الكثير، الذى انتهى على أساسه إلى إبطال الخلاف على تفسير ما أسماه المشاغبة الهمجية ولا على تفسير الرق بعد الانتقال من المشاغبة إلى البربرية الأولى، وهلم جرا.. مما يبطل فى النهاية «الأخيلة» التى اعتنقها الماركسيون التى تفتح ـ فى نظره ـ أبواب النقمة والخراب.
ويسوق تدليلا على ذلك ـ على سبيل المثال ـ الخلط الأكبر الذى يتبدى حين ننتهى إلى الحلقة الأخيرة من سلسلة الطبقات التى يضعها الماركسيون، وهى حلقة «رأس المال» أو الصناعة الكبرى.
فهذه الطبقة لا تخالف فقط الطبقة التى قبلها، وإنما تناقضها على حسب الأحجية الفلسفية، فضلا عن عدم جدوى متابعة «كارل ماركس» خلال السراديب والأنفاق التى جعل يتلوى بينها ليصل إلى مبدأ هذه الطبقة، وعدم جدوى متابعته فى سراديبه وأنفاقه الأخرى التى جعل يتلوى بينها ليصل إلى فنائها، ثم إلى النعيم الألفى المرتقب فى مجتمع أبدى لا طبقات فيه!.
والنتائج المحتومة التى افترضها ماركس لم تتحقق أى نتيجة منها، بل إن ما تحقق حتى الآن يناقضها ويهدم دعواها.. فرءوس الأموال تتفرق ولا تنحصر، وأسهم الشركات تتوزع بعشرات وبمئات الألوف، ومصانع الشركات الكبرى يساهم فيها العمال أحيانا، وتتفرق حصصها بين الأغنياء والمتوسطين والفقراء، وتتحول المرافق العامة إلى التأميم كلما كان ذلك أوفق لإدارتها من الملكية الخاصة.
يضاف إلى ذلك أن الطبقة الوسطى تزداد ولا تنقص ولا يقل نصيبها من الملكية أو الثروة عكس تقديرات ومفترضات «كارل ماركس».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved