لماذا فاطمة بنت مُحَمَّد هى «زهراء»؟

أكرم السيسى
أكرم السيسى

آخر تحديث: الخميس 25 مارس 2021 - 8:20 م بتوقيت القاهرة

فى إطار احتفالاتنا هذا الشهر بعيد المرأة وبعيد الأم، فقد كتبنا مقالنا السابق عن «دور المرأة فى نُصرة الأديان»، سردنا فيه سِيَر نساء الأنبياء والرسل اللاتى ذكرهن القرآن الكريم، وفى نهاية المقال كتبنا عن زوجة النبى محمد عليه السلام خديجة بنت خويلد، وذكرنا الحديث النبوى: «خير نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، وابنة مزاحم امرأة فرعون، وخديجة بنت خويلد، وفاطمة بنت محمد».
وفى هذا المقال سنتناول سيرة فاطمة بنت محمد ــ رضى الله عنها ــ باعتبارها إحدى خير نساء العالمين الأربع، وقد دفعنا لهذا أن الصورة العامة لدى عموم الناس عنها إن لم تكن مغلوطة فهى غير واضحة، ويرجع ذلك، فى أغلب الظن، إلى أنها من أكبر الرموز للمذهب الشيعى، ومن هنا يتحاشى بعض أهل السنة الحديث عنها، فالصورة التى تأتى إلى مخيلتنا هى أنها ابنة رسول الله الصغرى، وأقربها إلى قلبه، وهذا جعلنا نتخيلها أنها فتاة «مُدلَّلة»، لأنها «آخر العنقود» بلغة العصر الحالي!
وربما لا يعلم الكثيرون أن جامع الأزهر الشريف (972م) ــ أكبر قلعة إسلامية تمثل المذهب السنى فى العالم ــ اكتسب اسمه الحالى من لقب «الزَّهْرَاءُ» لفاطمة (عليها السلام) تيمنًا بها، فى وقت ما بين الخليفة المعز ونهاية عهد الخليفة الفاطمى الثانى فى مصر العزيز بالله! وكلمة «الأزهر» معناها «المُشرِق»، وهى صيغة المذكر لكلمة «الزهراء».
وعن سبب تسمية فاطمة بهذا اللقب، تقول المُفكرة الإسلامية عائشة عبدالرحمن المعروفة بـ«بنت الشاطئ»، أن فاطمة تزوجت فى سن الثامنة عشرة، وهى سن متأخرة ــ فى زمانها ــ وذلك بالنظر إلى أقرانها كعائشة بنت أبى بكر التى تزوجت فى عمر التاسعة أو الحادية عشرة، وقد فسَّر بعض المستشرقين هذا بأن فاطمة لم تكن جميلة.
ولكن بنت الشاطئ ــ فى كتابها «بنات النبى» ــ تُعطينا السبب الموضوعى لتأخر زواج فاطمة، ترى أن فى الزواج توجد علاقة مطردة، فكلما تميزت الفتاة بحسبها ونسبها وعلمها ومالها كلما قل أكفاؤها؛ فابنة الملك لا يناظرها فى الحسب والنسب سوى واحد أو اثنين من شباب المملكة، وربما يكون واحدا فقط من مملكة أخرى يصلح للتقدم لها، ولهذا فإن الفتيات اللاتى تتميزن بصفات ذات قيمة عالية يتأخر عادة زواجهن.
هكذا كانت فاطمة، هى ابنة النبى (صلى الله عليه وسلم)، وابنة خديجة (عليها السلام) سيدة سيدات قريش، ولهذا لم يَجرؤ أحد على خطبتها، فلم يكن كُفاءً لها سوى على بن أبى طالب: فهو من حيث النسب ابن عم أبيها، ومن حيث الإيمان هو أول صبى يؤمن بنبوة أبيها، ومن حيث الجهاد هو الذى نام فى سرير النبى يوم الهجرة ليفتديه، ولاحقا هو فقيه الأمة وخليفة المسلمين! وأما أخواتها الثلاث فقد تزوجن صغيرات لأن زواجهن كان قبل بعث أبيهم للنبوة، فالأمر إذن لا يتعلق بجمال فاطمة، وإنما متعلق بحسبها ونسبها وقَدْرِها وقت بلوغها سن الزواج!
***
وبالعودة لشخصية فاطمة الزهراء، وكما سبق الإشارة، فإن أغلب الناس يعتقدون أنها «مدللة»، ولكن الحقيقة عكس ذلك تماما، فهى صاحبة شخصية فذة، وقدرات ذهنية متميزة جدا، ويكفى أن نذكر رد فعلها من موقف أبى بكر الصديق ــ رضى الله عنه ــ عندما منعها من ميراث أبيها لأرض «فدك» (حديقة بالقرب من المدينة المنورة)، وذلك لما سمعه من رسول الله: «إنا معشر الأنبياء لا نورث، ما تركناه صدقة»، فقد ظنت فاطمة أنها ترث كما يرث الولد والده، وقد اقتنعت فيما بعد بحجة أبى بكر، ونحن لن نناقش هذه القضية، ولكننا سنحلل خطابها فيما عُرف بـ«الخطبة الفدكية» (مُتفق عليها من السنة والشيعة) التى وجّهتها لأبى بكر فى مسجد المدينة، وفى حشد من المهاجرين والأنصار.
نرى فى خطابها إيجاز مُعجز لمبادئ الدين الإسلامى: العقيدة الإسلامية، وأركان الإسلام الخمسة، ومواصفات ومهمة النبى محمد (صلى الله عليه وسلم)، لا نعتقد أن له مثيلا فيمن تولوا شرح هذه المبادئ!
لقد بدأت خطابها، بعد الحمد لله، بشرحها للعقيدة الإسلامية فقالت: «َأَشْهَدُ أَنْ لا إلهَ إلاَّ اللهُ وَحْدَهُ لا شَريكَ لَهُ، كَلِمَةٌ جَعَلَ الإخْلاصَ تَأْويلَها، وَضَمَّنَ الْقُلُوبَ مَوْصُولَها، وَأَنارَ فى الْفِكَرِ مَعْقُولَها»؛ وعن وصف الذات الإلهية قالت: (...) اِبْتَدَعَ الأَشَياءَ لا مِنْ شَيْءٍ كانَ قَبْلَها، وَأَنْشَأَها بِلا احْتِذاءِ أَمْثِلَةٍ امْتَثَلَها، كَوَّنَها بِقُدْرَتِهِ، وَذَرَأَها بِمَشِيَّتِهِ، مِنْ غَيْرِ حاجَةٍ مِنْهُ إلى تَكْوينِها»، ثم أضافت: «وَحَرَّمَ الله الشِّرْكَ إخلاصا لَهُ بالرُّبُوبِيَّةِ، فَاتَّقُوا اللهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إلا وَأنْتُمْ مُسْلِمُونَ، وَأطيعُوا اللهَ فيما أمَرَكُمْ بِهِ وَنَهاكُمْ عَنْهُ، فَإنَّه إنَّما يَخْشَى الله مِنْ عِبادِهِ العُلِماءُ».
وعن علاقة العبد بخالقه، قالت: «وَتَنْبيهًا عَلى طاعَتِهِ، (...) ثُمَّ جَعَلَ الثَّوابَ على طاعَتِهِ، وَوَضَعَ العِقابَ عَلى مَعْصِيِتَهِ، زيادة لِعِبادِهِ عَنْ نِقْمَتِهِ، وَحِياشَةً مِنْهُ إلى جَنَّتِهِ».
وأضافت عن مهمة النبى (صلى الله عليه وسلم): «ابتعثه الله إتماما لأمره، (...) فرأى الأمم فرقا فى أديانها، (...) عابدة لأوثانها، منكرة لله مع عرفانها، فأنار الله بأبى محمد (صلى الله عليه وسلم) ظُلَمَها، وكشف عن القلوب بهمها، وجلى عن الأبصار غممها، وقام فى الناس بالهداية، فأنقذهم من الغواية، وبصّرهم من العماية، وهداهم إلى الدين القويم، ودعاهم إلى الطريق المستقيم (...)، داعِيا إلى سَبيلِ رَبِّهِ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنةِ، يَكْسِرُ الأَصْنامَ (...)، حَتَّى انْهَزَمَ الْجَمْعُ وَوَلُّوا الدُّبُرَ».
لم يفُتها ــ رضى الله عنها ــ التأثير العاطفى على المستمعين بذكر مواصفات النبى، والتذكرة بأنه أباها، فقالت: «أيها الناس، اعلموا أنّى فاطمة، وأبى محمد، (...) لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم، حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم، (...) تجدوه أبى دون نسائكم (...)»، هكذا أكدت على السامعين ذكر علاقتها بأبيها بقولها «أبى» كلمة هزت بها قلوب الحاضرين، ولا ينطق بها سواها!
وعن قوة شخصيتها فى مواجهة الخليفة الأول للمسلمين، فلم تناده لا باسمه «أبوبكر»، ولا بكنيته «الصِّديق» التى وصفه بها النبى، ولكنها نادته بكنيته قبل الإسلام «يا ابن أبى قحافة»، إشارة إلى أنها فى مرتبة أعلى، ولم يستنكر أبوبكر (عليه السلام) قولها، بل احترمها ووقرها، ورد عليها: «صدق الله ورسوله، وصدقت ابنته، أنت معدن الحكمة وموطن الهدى والرحمة، وركن الدين، وعين الحجة، ولا أبعد صوابك، ولا أنكر خطابك»..!
وعن وعيها بأن المستمعين ليسوا من ثقافة واحدة، وأن لكل ثقافة خطابا خاصا بها، فقد رمت بطرفها نحو الأنصار ــ أثناء حديثها ــ ووجَّهت لهم خطابا خاصا، تذكر فيه فضائلهم قائلة: «يا معشر النقيبة وأعضاد الملّة وحضنة الإسلام (...)، قاتلتم العرب، وتحمّلتم الكدّ والتعب، وناطحتم الأمم، (...) نأمركم فتأتمرون، حتى إذا دارت بنا رحى الإسلام، (...) وخضعت ثغرة الشرك، وسكنت فورة الإفك، وخمدت نيران الكفر، وهدأت دعوة الهرج والمرج، واستوسق نظام الدين»..!
وعن فهمها وتذكيرها المستمعين بأركان الإسلام الخمسة، قالت: «فَجَعَلَ اللهُ الإيمانَ تَطْهيرا لَكُمْ مِنَ الشِّرْكِ، وَالصَّلاةَ تَنْزِيها لَكُمْ عَنِ الكِبْرِ، والزَّكاةَ تَزْكِيَةً لِلنَّفْسِ وَنَماءً فى الرِّزْق، والصِّيامَ تَثْبيتا للإِخْلاصِ، والحَجَّ تَشْييدا لِلدّينِ».
وعن القيم السامية والسلوكيات الحميدة التى جاء بها الإسلام، قالت: «وَالعَدْلَ تَنْسيقا لِلْقُلوبِ، وَطاعَتَنا نِظاما لِلْمِلَّةِ، وَإمامَتَنا أمانا مِنَ الْفُرْقَةِ، وَالْجِهادَ عِزا لِلإْسْلامِ، وَالصَّبْرَ مَعُونَةً عَلَى اسْتِيجابِ الأْجْرِ، وَالأْمْرَ بِالْمَعْرُوفِ مَصْلَحَةً لِلْعامَّةِ، وَبِرَّ الْوالِدَيْنِ وِقايَةً مِنَ السَّخَطِ، وَصِلَةَ الأَرْحامِ مَنْماةً لِلْعَدَدِ، وَالْقِصاصَ حِصْنا لِلدِّماءِ، وَالْوَفاءَ بِالنَّذْرِ تَعْريضا لِلْمَغْفِرَةِ، وَتَوْفِيَةَ الْمَكاييلِ وَالْمَوَازينِ تَغْييرا لِلْبَخْسِ، وَالنَّهْيَ عَنْ شُرْبِ الْخَمْرِ تَنْزِيها عَنِ الرِّجْسِ، وَاجْتِنابَ الْقَذْفِ حِجابا عَنِ اللَّعْنَةِ، وَتَرْكَ السِّرْقَةِ إيجابا لِلْعِفَّةِ».
وأما عن قيمها النبيلة، وسلوكها السوى، وحبها لدينها ولأبيها، وحرصها على عدم إحداث فتنة بين المسلمين، فقد انتهى حوارها وخلافها مع أمِيرُ الْمُؤْمِنِينَ أبى بكر ــ رضى الله عنه ــ عندما قال لها: «لا وَيْلَ عَلَيْكِ، الْوَيْلُ لِشانِئِكِ، نَهْنِهى عَنْ وَجْدِكِ يَا ابْنَةَ الصَّفْوَةِ وَبَقِيَّةَ النُّبُوَّةِ، فَما وَنَيْتُ عَنْ ديِنى، وَلا أَخْطَأْتُ مَقْدُورى، فَإنْ كُنْتِ تُريدينَ الْبُلْغَةَ فَرِزْقُكِ مَضْمُونٌ، وَكَفيلُكِ مَأمُونٌ، وَما أعَدَّ لَكِ أفْضَلُ ممّا قُطِعَ عَنْكِ، فَاحْتَسِبِى الله«»، فَقالَتْ: حَسْبِيَ اللهُ، «وَأمْسَكَتْ»!
***
هذه هى الشخصية الحقيقية لفاطمة بنت محمد رضى الله عنها، وَضَحَت فى قدرتها الفائقة على التعبير بفصاحة نادرة، والإقناع المنطقى، أثبتت فيها ذكاءها وقوتها وقدرتها على التمييز بين الناس، وكيفية مُخاطبتهم، وثقتها بنفسها فى مطالبتها بحقها.
هكذا كانت رضى الله عنها منذ مولدها وحتى قبل زواجها «زهراء»، وهى كذلك بعد زواجها «زهراء»، وأيضا بعد وفاة أبيها وحتى آخر يوم فى حياتها «زهراء» برجاحة عقلها، ونبل سلوكها، وحسن خلقها، وتجنيب الأمة الفتنة، أليست هى ابنة من صدق فيه قول الله: «وإنك لعلى خُلق عظيم»!

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved