وفاق القوى الجديد.. نحو تعزيز الاستقرار فى عالم متعدد الأقطاب

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الخميس 25 مارس 2021 - 10:36 م بتوقيت القاهرة

نشرت مجلة فورين أفيرز مقالا للكاتبين ريتشارد هاس وتشارلز كوبشان تناولا فيه اقتراح إنشاء «وفاق عالمي» على غرار الوفاق الأوروبى الذى تم بين الدول الأوروبىة فى القرن التاسع عشر للحفاظ على توازن القوى بين الدول الأوروبية وسلامة حدودهم.. نعرض منه ما يلى.

يقف النظام الدولى عند نقطة انعطاف تاريخية، تتصاعد فيها القوة الاقتصادية الآسيوية وتقترب الهيمنة الغربية من نهايتها. يخسر الغرب الهيمنة المادية والأيديولوجية، تتساقط الديمقراطيات حول العالم فريسة للشعبوية ومعاداة الليبرالية، مع تصاعد القوى الصينية والروسية، والتدهور الاقتصادى مع جائحة كرورنا.. يحاول الغرب الديمقراطى، وبالأخص مع وصول الرئيس الأمريكى جو بايدن، الرجوع إلى المسار الديمقراطى، إلا أنهم لن يتمكنوا من الحيلولة دون التحول العالمى إلى التعددية القطبية والتنوع الأيديولوجى. يعلمنا التاريخ أن نهاية هذه الفترات تشهد كوارث، فالسباق على الهيراركية والأيديولوجية ينتهى بحروب عظيمة. تفادى هذه النتائج يحتاج إلى الاعتراف بأن النظام الليبرالى تحت القيادة الغربية الذى ظهر بعد الحرب العالمية الثانية لن يستطيع تحقيق الاستقرار فى القرن الحادى والعشرين. ولذلك نحن فى حاجة إلى نظام فعال وقابل للتطبيق.
الطريقة المثلى لتحقيق الاستقرار فى القرن الحالى هو من خلال «وفاق عالمى» للقوى الكبرى؛ على غرار الوفاق الأوروبى فى القرن الـ19، الذى ضم المملكة المتحدة، وفرنسا، وروسيا، وبروسيا واستراليا، وعمل على الحد من المنافسة الأيديولوجية والجيوسياسية التى دائما ما تصاحب التعددية القطبية.. هذا الوفاق يتحلى بصفتين؛ الشمولية السياسية والطابع غير الرسمى الإجرائى. الشمولية من حيث أن تجلس الدول القوية بغض النظر عن نظامها السياسى على الطاولة، وطابع غير رسمى من حيث أنها تتجنب الاتفاقيات والإجراءات الملزمة.
«الوفاق العالمى» يوفر مساحة تعترف بالمصالح المشتركة والمتعارضة، ويوفر وسيلة لحوار استراتيجى مستدام يساعد على إدارة الاختلافات الجيوسياسية والأيديولوجية.
«الوفاق العالمىس سيكون جهازا استشاريا، وليس صانع قرار.. يعمل على وضع قواعد جديدة وبناء الثقة للمبادرات الجماعية، تاركا المسائل التشغيلية، مثل نشر بعثات حفظ السلام، إلى الأمم المتحدة والهيئات الأخرى. يحدد الوفاق العالمى القرارات التى يمكن اتخاذها وتنفيذها، ويقف على قمة النظام الحالى، ولن يستبدله، ويحقق حوارا غير موجود الآن، سواء فى الأمم المتحدة الغارقة فى البيروقراطية أو غيرها.
إجماع القوى الكبرى على المعايير الدولية، قبول الحكومات الليبرالية وغير الليبرالية على حد سواء، تعزيز النهج المشترك لمواجهة الأزمات هو ما اعتمد عليه «الوفاق الأوروبى» لحفظ السلام فى عالم متعدد الأقطاب.. ووجود «وفاق عالمى» فى القرن الواحد والعشرين يمكن أن يحقق الشيء نفسه.
***
الوفاق العالمى يضم ستة أعضاء: الصين، والاتحاد الأوروبى، والهند، واليابان، وروسيا، والولايات المتحدة، سيرسلون ممثلين دائمين من أعلى الرتب الدبلوماسية إلى المقر الدائم للوفاق العالمى. ستحظى الديمقراطيات وغير الديمقراطيات على مكانة متساوية، والقوة والتأثير سيكونان المعيار، وليس القيم ونوع النظام. الأعضاء سيمثلون ما يقرب من 70% من الناتج المحلى الإجمالى العالمى والإنفاق العسكرى العالمى. هؤلاء الأعضاء سيعطون للوفاق نفوذا استراتيجيا وسيمنعون انجراره ليصبح حقل كلام وليس إلا. يضم الوفاق أربع أعضاء غير رسميين يحتفظون بوفود دائمة فى مقر الوفاق؛ الاتحاد الإفريقى، وجامعة الدول العربية، ومنظمة الآسيان، ومنظمة الدول الأمريكية. ستعمل هذه المنظمات على تمثيل مناطقها والمساعدة فى تشكيل جدول أعمال الوفاق.
يعتمد الوفاق العالمى على الحوار، ويحافظ على الحدود الراهنة بين الدول والأنظمة السياسية، باستثناء الحالات التى يكون فيها إجماع دولى على التغيير، ما يحث الدول على الانضمام إليه. ستعترف المجموعة من منظور واقعى بأن الدول فى عالم متعدد الأقطاب تحكمها الهيراركية والأمن والرغبة فى استمرار أنظمتها، ما يجعل الاختلاف أمرا لا مفر منه. الدول ستكون لديها القدرة على العمل الأحادى إذا هُددت مصالحها. ولكن الحوار الاستراتيجى المباشر سيجعل التحركات المفاجئة أقل شيوعا والعمل الأحادى أقل تواترا. لن يختفى اختلاف المصالح، ولكن النزاعات ستكون قابلة للإدارة. والأعضاء سيدركون بسبب واقعيتهم حدود التعاون أو حل خلافاتهم. لن تكون هناك تدخلات فى شئون الحكم الداخلية للدول الأعضاء، سيكون هناك اتفاق على وجود اختلافات فيما يتعلق بالمسائل الديمقراطية والحقوق السياسية، وسيدركون أن هذا الاختلاف لن يعرقل التعاون الدولى.
***
«الوفاق العالمى» سيشكل انتكاسة للمشروع الليبرالى للدول الديمقراطية بعد الحرب العالمية الثانية، ولكن هذه الانتكاسة لا مفر منها بالنظر إلى الحقائق الجيوسياسية للقرن الواحد والعشرين. النظام الدولى سيمتلك خصائص الثنائية القطبية والتعددية القطبية. المتنافسان هما الولايات المتحدة والصين، ولكن المنافسة الأيديولوجية والجيوسياسية بينهما لن تعم. الدول الأخرى ستحافظ على المسافة بين الدولتين وستحافظ على قدر كبير من حكمها الذاتى، وستحد الصين والولايات المتحدة من تدخلاتهما فى المناطق غير المستقرة التى تحظى بأهمية استراتيجية أقل تاركة الصراعات المحتملة فى تلك المناطق للاعبين الآخرين لحلها، أو ربما لن تتركها لأحد. أدركت الصين مصلحتها فى الابتعاد عن أماكن الصراع، وتعلمت الولايات المتحدة الدرس متأخرة.
إن الوفاق العالمى يعزز الاستقرار وسط نظام متعدد الأقطاب، ويقصر عضويته على عدد يمكن التحكم فيه، ويسمح الطابع غير الرسمى بالتكيف مع الظروف المتغيرة ويطمئن النظم الخائفة من وقوع الالتزامات عليها. فى ظل عالم تتصاعد فيه الشعبوية والقومية، والدول التى لا تفضل وقوع التزامات عليها، الوفاق يوفر المرونة اللازمة.
***
البدائل الراهنة لمشروع الوفاق العالمى تعانى من قصور. أولا، سجل الأمم المتحدة يبين ضعفها؛ الفيتو يجعل مجلس الأمن عاجزا، الأعضاء الدائمين يعكسون عالم 1945، توسيع عضوية مجلس الأمن ممكن ولكنه سيتركه أضعف وأقل تأثيرا عما هو عليه الآن. يجب أن تستمر الأمم المتحدة فى أداء وظائفها، ولكنها لن تحقق الاستقرار العالمى. ثانيا، احتمالية قيام شراكة أمريكية صينية هو أيضا بديل ضعيف، فحتى إذا افترضنا أن الولايات المتحدة والصين بإمكانهما إخماد حدة المنافسة بينهما، فإن معظم مناطق العالم ستقع خارج نطاق اختصاصهما المباشر. وعلاوة على ذلك، الرهان على تحقيق استقرار عالمى قائم على التعاون بين أمريكا والصين ليس رهانا آمنا. فالاثنان لديهما ما يكفى من الخلافات فى منطقة آسيا والمحيط الهندى. إلى جانب ذلك، قد يطلق هذا الخيار يد الصين وروسيا فى دول جوارهما ويشجع ميولهما التوسعية ويزيد من انتشار الأسلحة والصراعات الإقليمية. ثالثا، «سلام صينى» أو «Paxــ Sinica»، مثلما الحال مع قرن الهيمنة البريطانية والسلام البريطانى ــ PaxــBritannica (1815ــ 1914) والسلام الأمريكى PaxــAmericana بعد الحرب العالمية الثانية، لن يكون بديلا جيدا. فلا تملك الصين القدرة أو الطموح لترسيخ نظام عالمى، وتركيزها وطموحاتها الجيوسياسية الحالية تقتصر على منطقة آسيا والمحيط الهندى. كما أنها لم تسع إلى تصدير آرائها حول الحكم المحلى أو دفع بمعايير جديدة لترسيخ الاستقرار العالمى. بالإضافة إلى ذلك، ستظل الولايات المتحدة فى المرتبة الأولى ولن يكون السلام الصينى غير الليبرالى مقبولا للأمريكيين أو غيرهم.
***
الوفاق العالمى سيحقق الاستقرار الدولى من خلال التشاور والتفاوض المستمر من خلال ممثلى الأعضاء الدائمين وغير الدائمين، وسوف يتم التناوب على رئاسة الوفاق سنويًا بين أعضائها الستة. لن يكون مقر الهيئة فى أى من الدول الأعضاء، ربما ستكون فى جنيف أو سنغافورة. ولن يكون هناك قوة الفيتو.
يفترض ذلك أنه لن يعتزم أى من الأعضاء على العدوان أو الغزو. فى الوفاق الأوروبى، لم تعتزم أى دولة عضو على العدوان لأنهم أرادوا الحفاظ على الوضع الراهن. ولكن فى الوقت الحالى، روسيا تريد ضم اراض إليها فى أوكرانيا وجورجيا، والصين تريد ضم بحر الصين الجنوبى إلى سيادتها ولا تحترم الحكم الذاتى لهونج كونج. ولكن حتى الآن لا تقوم الصين أو روسيا بالتوسع الإقليمى الشامل، ووجود وفاق عالمى من شأنه تقليص احتمالية حدوث ذلك من خلال حوار يوضح المصالح الأمنية والسياسية والخطوط الحمراء الاستراتيجية لتلك الدول. وإذا ظهرت دولة معادية تهدد مصالح الأعضاء الآخرين، فستطرد من المجموعة وسيتحالف الأعضاء الآخرون ضدها.
لتعزيز تضامن القوى العظمى، سيركز الوفاق على أولويتين: أولا احترام الحدود الحالية ومقاومة التغييرات الإقليمية القائمة على القوة أو العنف، قد يتعارض ذلك مع حق تقرير المصير ولكن سيكون هناك خيار اعتراف الوفاق بالدول الجديدة وفقا لما يرونه مناسبا، وستتعامل بشكل منفصل مع كل دولة بها انتهاكات لحقوق الإنسان. الأولوية الثانية هى توليد استجابات جماعية للتحديات العالمية. فى أوقات الأزمات سيعمل الوفاق على تعزيز الدبلوماسية والمبادرات المشتركة، وتسليمها بعد ذلك للهيئات المناسبة لتنفيذها، مثل الأمم المتحدة، وبالتالى سيعمل الوفاق على تكييف المعايير والمؤسسات الحالية للتعامل مع التغييرات العالمية.
***
هناك بعض الاعتراضات التى يواجهها إنشاء وفاق عالمى. أول الاعتراضات تقع على العضوية، فعلى سبيل المثال، لماذا لا تذهب العضوية لأقوى الدول فى أوروبا؟ والإجابة هى أن الثقل الجيوسياسى لأوروبا يأتى من قوتها الكلية، وليس من قوة أعضائها منفردين. ثانيا، قد يشكك البعض فى ضم روسيا إلى الوفاق على الرغم من أن ناتجها المحلى الإجمالى لا يقع ضمن المراكز العشرة الأولى. ولكن روسيا قوة عظمى نووية ولها ثقل على الساحة الدولية، وعلاقتها مع الصين وأمريكا والاتحاد الأوروبى سيؤثر على الجغرافيا السياسية للقرن الحالى، بالإضافة إلى أن روسيا بدأت فى استعادة نفوذها فى الشرق الأوسط وأفريقيا. ثالثا، سيتم تمثيل أجزاء كبيرة من العالم ــ أفريقيا والشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية ــ من خلال منظماتهم الإقليمية الرئيسية، وسيكون لهم وجود منتظم فى مقر الوفاق العالمى. رابعا، قد يعترض البعض قائلا إن الوفاق العالمى سيشكل عالما منقسما لمساحات نفوذ بين القوى الكبرى. ولكن، على العكس من ذلك، سيعمل الوفاق على تعزيز التكامل الإقليمى وسيعمل مع المنظمات الإقليمية لكبح توسع النفوذ. فالهدف هو تسهيل التنسيق العالمى مع الاعتراف بسلطة ومسئولية الهيئات الإقليمية. خامسا، قد يزعم البعض أن الوفاق شديد التمحور حول الدولة فى عالم اليوم. ولكن الحركات الاجتماعية والمنظمات غير الحكومية... إلخ يمتلكون قوة سياسية كبيرة، وسيكون بمقدرة الوفاق، وعليهم، دمج المنظمات غير الحكومية والشركات.. إلخ فى الحوار ــ على سبيل المثال مشاركة شركات الأدوية الكبرى فى النقاش حول كرورنا ــ وبالتالى سيكمل الوفاق، ولن يستبدل، مساهمات الجهات الفاعلة غير الحكومية فى النظام الدولى. وأخيرا، قد يتساءل البعض حول تعارض إضفاء الطابع المؤسسى على الوفاق ومرونته وكونه غير رسمى. ولكن إنشاء مقر للوفاق وسكرتارية من شأنها أن يمنحا الوفاق مكانة وفعالية أكبر من التجمعات الأخرى التى تتجمع بشكل متقطع وقدرة على توفير الحوار المستمر طويل الأمد اللازم لمعالجة جميع القضايا؛ التقليدية وغير التقليدية.
***
لن يكون إنشاء «الوفاق العالمى» ترياقا سحريا، ووضع القوى العظمى حول طاولة واحدة لا يضمن توافق الآراء. ولكن يظل الوفاق العالمى هو أفضل الطرق وأكثرها واقعية لتعزيز التنسيق بين الدول العظمى والحفاظ على الاستقرار الدولى.. يجب التوقف عن التظاهر بأن النظام العالمى الذى نشأ بعد الحرب يمكن استمراره، ويجب مواجهة حقيقة أن التخلى عن القيادة سيهدد بالرجوع إلى نظام عالمى يشوبه الفوضى. ولذلك الوفاق العالمى يمثل حل براجماتى وحل وسط بين المثالية والواقعية والبدائل الخطرة.

إعداد: ابتهال أحمد عبدالغنى
النص الأصلي

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved