صمامات الأمان فى أزمة وجودية
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأربعاء 25 أبريل 2018 - 9:45 م
بتوقيت القاهرة
أمام مسألة حياة أو موت لا يمكن النظر إلى صمامات الأمان، التى تضمن أوسع تماسك وطنى، كخيار يستغنى عنه، أو يستبدل بغيره.
بقدر خطورة أزمة مياه النيل، التى من المنتظر تفاقمها بعد تشغيل سد «النهضة» الإثيوبى دون التوصل إلى أى اتفاق بشأنه، يكاد يكون ذلك التماسك ضرورة وجود لمنع أى اهتزازات عنيفة لا تحتملها مصر المنهكة.
وصلت أزمة السد الإثيوبى إلى طريق مسدود باعتراف وزير الخارجية المصرى «سامح شكرى» ومن غير المحتمل تسوية الأزمة فى أى وقت قريب.
ارتفعت نبرة الاحتجاج على استهلاك الوقت، الذى تتبعه إثيوبيا، دون أن تسندها سياسات جديدة تصحح الأخطاء المتراكمة فى إدارة الملف الحساس حتى وصلنا إلى حافة الخطر الداهم.
بنظرة على المشهد السياسى المضطرب فى إثيوبيا المرجح أن تمضى إلى مزيد من التشدد والمراوغة بأى مباحثات مقبلة حتى تجد مصر نفسها أمام سد ملأ وأمر واقع حدث.
لإثيوبيا الحق فى التنمية حتى تخفف من وطأة الفقر المتفشى ولمصر الحق فى المياه حتى تضمن القدرة على إنتاج الغذاء لمواطنيها.
المعادلة صحيحة وبسيطة لكن تعترضها أوضاع اضطرابات وصراعات قبلية واجتماعية وسياسية فى إثيوبيا أضفت على سد «النهضة» أهمية تتجاوز الحق فى التنمية إلى ضرورات بقاء الدولة نفسها باصطناع عدو يوحدها وراء مشروع عليه درجة عالية من التوافق.
مصر ليست عدوا لإثيوبيا ولا إثيوبيا عدوا لمصر، لكنه التوظيف السياسى لمسألة يسهل حلها فى الظروف الطبيعية.
جرى توظيف الأوضاع والأخطاء المصرية لمقتضى المضى فى مشروع السد دون اهتمام يعتد به لأى حقوق فى مياه النيل.
لم يكن الرئيس الأسبق «حسنى مبارك» متنبها بدرجة كافية للمشروع وأخطاره.
تابع خطواته الأولى واستقصى المعلومات الفنية من مصادر متعددة، رفض التوقيع على «اتفاقية عنتيبى» لدول حوض وادى النيل خشية المس بحصة مصر التاريخية من مياهه، ولوح باستخدام القوة العسكرية، لكنه لم يبن أى استراتيجية متماسكة تتوقع مستويات الخطر وتعمل على تجنبه.
بعد ثورة «يناير» وظفت الحكومة الإثيوبية اضطراب المرحلة الانتقالية للتعجيل بمشروع السد دون أى استعداد للنظر فى أى تقارير دولية ــ مثل تقرير منظمة الأنهار الدولية الذى دعا إلى إيقاف بنائه لحين استكمال الدراسات الضرورية.
فى فترة الرئيس الأسبق «محمد مرسى» بدا الأداء بدائيا وعشوائيا.
وقد استخدمت السلطات الإثيوبية المؤتمر الذى عقده فى قصر «الاتحادية» للتشهير بمصر داخل إفريقيا، فهى دولة تتآمر لإثارة النزاعات الداخلية وتعمل على رشى الجماعات المتمردة وتهدد بعمل عسكرى قبل الدخول فى أى تفاوض.
بأثر ذلك النوع من الأداء مالت السياسة المصرية تحت رئاسة «عبدالفتاح السيسى» إلى إبداء قدر أكبر من الحذر فيما ينشر ويذاع والرهان فى الوقت نفسه على تبادل المصالح والتعاون الإقليمى غير أنه اصطدم بالحقائق الإثيوبية دون أن تكون هناك استراتيجية قادرة على حفظ الحقوق المائية للبلد لا تستبعد خيارا واحدا.
فى جميع جولات التباحث والتفاوض التى جرت لم يلتزم رئيس الوزراء السابق «هايلى ماريام ديسالين» بأى مسار فنى جرى التوافق عليه، ولا باتفاقية الإطار التى وقعها بنفسه فى الخرطوم مع الرئيسين المصرى والسودانى، لأسباب داخلية دعته لتوظيف الأزمة غير أن الاضطرابات كانت أكبر من أن تحتوى.
لا أحد ــ تقريبا ــ يتوقع أن يبدى خلفه «أبى أحمد على» أى مرونة فى ملف الأزمة، والأغلب أنه يكون أكثر تشددا على ذات الخط.
هكذا فإن الخطر الداهم تقترب مواعيده وصمامات الأمان فى غير مكانها، غائبة أو معطلة.
من بين صمامات الأمان وضع الرأى العام فى كامل الصورة حتى لا تفاجئه أى تطورات محتملة.
الإخفاء كارثة بقدر الامتناع عن التصحيح والاعتراف بمواطن الأخطاء فى إدارة الأزمة.
الصراخ الإعلامى لا يفيد، كما المبالغة فى أحاديث التفاؤل دون سند.
إذا كان التفاؤل حقيقيا حسب تصريحات المسئولين عن الملف فلماذا إعطاء أولوية عاجلة لإنشاء محطات تحلية مياه بالبحرين الأحمر والمتوسط والتوسع فى معالجة الصرف الصحى والزراعى والصناعى؟
باليقين تعانى مصر من فقر مائى ــ حتى لو لم تتضرر حصتها الحالية من مياه النيل ــ وهذه المشروعات لها أهميتها وضرورتها، لكنها ليست أولوية فى اللحظة الحالية إلا إذا كان مستقرا داخل مؤسسات القرار السياسى أن أزمة المياه واقعة لا محالة.
لا يجب استبعاد السيناريو الأسوأ حتى تكون اليقظة كاملة شرط إبلاغ الرأى العام بالحقيقة والخطوات التى يجب اتباعها.
عندما تتفاقم الأزمات ليس بوسع أحد إخفاء الحقيقة، التى سوف ينظرها الناس العاديون فى شح المياه وانخفاض منسوبها فى نهر النيل.
بالتبعية سوف تنخفض على نحو غير مسبوق حصة الفرد من المياه، وربما يحدث شىء من التصحر فى الأراضى الزراعية الحالية وتتوقف أى رهانات على استزراع أراض جديدة فيما الزيادة السكانية ترتفع إلى معدلات قياسية.
هناك ضرورات تقتضى ترشيد المياه والمواطن العادى هو المعنى مباشرة ــ وهذا موضوع مصارحة بالحقائق ودعوة كل من له خبرة أن يجتهد ويساهم فى إيجاد حلول ممكنة.
إذا لم تكن هناك سياسات جديدة ترشد ما تستهلكه منتجعات الأثرياء من مياه فإن عقاب من يزرع الأرز، أو أى محاصيل أخرى تتطلب ريا كثيفا سوف يكون أمرا عبثيا وداعيا لاضطرابات محتملة.
عدالة توزيع الأعباء والتضحيات مسألة حاسمة فى مثل هذه الأوضاع الصعبة.
بنفس القدر فإن رفع رواتب الوزراء وكبار المسئولين والامتناع عن أى زيادة فى المعاشات قررتها أحكام قضائية مشروع تذمر يصعب معه الحديث عن تماسك وطنى فى لحظة حرجة تقترب بأكثر مما نتوقع.
من أخطر ما قد يحدث ــ بتداعيات أزمة المياه مترافقة مع زيادات متوقعة فى الأسعار وانخفاض فى مستويات المعيشة على نحو لا يحتمل ــ أن تتمركز الجماعات الإرهابية من جديد فى بيئة احتقان تساعدها على تقويض أى استقرار.
العدالة الاجتماعية صمام أمان يصون الدولة ويحفظ حياة مواطنيها وأملهم فى المستقبل.
توسيع المساحات المشتركة ــ بتعبير الرئيس نفسه ــ صمام أمان آخر، لكنه معطل.
إذا لم تفتح شرايين الإعلام للحوار والتنوع والحق فى الاجتهاد والاختلاف ويرد اعتبار السياسة ويفرج عن الشبان المظلومين خلف جدران السجون حسب الوعود الرئاسية والمحبوسين احتياطيا بغير محاكمة فإن الكلام عن أى تماسك وطنى يفقد حرمته ومعناه.
من صمامات الأمان الضرورية تصحيح العلاقات مع القارة الإفريقية.
لا بد أن نعترف أن المشكلة تتعدى إثيوبيا إلى القارة رغم الجهود التى تبذل فى ترميم العلاقات بعد سنوات طويلة من الجفاء والتنكر لقضاياها وشواغلها، إلا أن ما هو مبذول يقصر عما هو مطلوب.
إذا غابت صمامات الأمان فكل احتمال وارد وكل فوضى ممكنة.
هذه حقيقة ينبغى الالتفات إليها والعمل بمقتضى ضروراتها الوجودية.