دموع الفرح

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 25 أبريل 2019 - 10:40 م بتوقيت القاهرة

انسابت أنهار الدموع على وجنتيها فراحت تلعقها باستمتاع كأنها قطرات من العسل المصفى، بدا لها وكأن "الهَويس" الذي كان يحجز دموعها من ورائه قد انفتح فجأة فإذا بفيضان الدموع يجتاح مآقيها ويحجب عنها الرؤية تماما أو يكاد. أشباح تمر أمامها فلا تميز أصحابها إلا بعد أن يبادلوها الكلام، تدخل في حالة من الضحك الهيستيري وكأنها تُدّرب نفسها على كل المشاعر الإنسانية بعد أن حُرِمَت طويلا من أن تحزن وتفرح كباقي خلق الله. سنين وسنين تعيش ولا تعيش، تمر بكل التجارب حلوها ومرها فلا تتفاعل معها كأنها لا تعنيها مع أن المفترض أنها تعنيها. وُلِدَت وهي على هذه الحالة من تبلد المشاعر فلا يهزها ما يهز الناس، قناع من الوجوم يغطي وجهها ويسبب لها إحراجا إذ تقوم الدنيا وتقعد أمامها وهي على حالها من اللامبالاة ، لا لم يتسبب لها الوجوم في إحراج، هي أصلا لم تكن تشعر أنها واجمة. كل ما في جسدها يعمل بكفاءة إلا محرك الروح فإنه لا يجد من يُشغله، وعندما أدرك الأهل أن في الأمر مشكلة وبدأت رحلة التردد على عيادات الأسماء الكبيرة والتخصصات من كل نوع، سرعان ما انتهت رحلتهم في اللحظة التي أشار لهم أحد الموثوقين بوجوب عرضها على متخصص في الطب النفسي، في محيطها لا موضع لهذا التخصص، عيب أو حُجرة كما في لغة أهل المغرب. هكذا تركها الأهل لتبلدها تواجه به ما تواجهه.

***
هي تذكر جيدا ذلك اليوم الذي فقدت فيه صديقة طفولتها دون سابق إنذار، خلدت إلى النوم ذات مساء فلما أتوا ليوقظوها لم تستيقظ، ذهبت صديقتها إلى غير رجعة وتركتها وحيدة. لم تبكِ مع أن الحدث جلل فهي بحكم طبيعتها كانت محدودة العلاقات جدا، فقط هذه الصديقة كانت تفهمهما، لا تجترئ على مساحتها الخاصة ولا تمطرها بأسئلة سمجة لا تعرف لها إجابة عن طبيعتها المختلفة.. المختلفة جدا عن الآخرين. لم تبكِ وهي ترافق صديقتها الراحلة حتى مثواها الأخير، راحت تتفرج على المُعَزّين وهم يبكون بحرقة فيتحرك شيء بطئ وكسول في داخلها لكنه سرعان ما يهدأ ويرجع إلى مكانه للخلف دُر. كانت مثلهم تتشح بالسواد ، ومثلهم تتلو القرآن، ومثلهم توزع الصدقات على قبر صديقتها لكنها بخلافهم جميعا لم تذرف دمعة واحدة. عادت إلى منزلها بعد انتهاء المراسم الحزينة واستلقت على فراشها، تناهي لها صوت أمها قائلا: ابكِ يا حبيبتي .. لا تحبسي دموعك ، كانت هناء عزيزة علينا جميعا وعليكِ أنتِ بالذات، و... قبل أن تكمل الأم جملتها كانت ابنتها قد شدّت الغطاء علي جسدها وتناومت.

***
موقف فقدان هناء ليس هو الموقف الوحيد الذي تجلت فيه اللامبالاة الصادمة لصاحبتنا، لكنه ربما كان الموقف الأصعب الذي لم يستنطق مشاعرها. ولابد أن كل مبررات الدهشة ستكون متاحة لنا حين نعلم أن والدة هناء هي التي قررت أن تأخذ بيد صديقة ابنتها إلى طريق العلاج النفسي بينما الأم الثكلى هي الأوْلَي بمن يداوي نفسها، هل يوجد ما هو أعّز من فقدان الضنا؟ لا يوجد. لكن الأم حين مدت يدها لإنقاذ صاحبة ابنتها شعرت كما لو أن القدر أتاح لها أن تفعل ما حُرِمَت منه مع هناء. وهكذا وجدت صاحبتنا نفسها بين يدي طبيبة ودودة حاولت استئناس مشاعرها فقاومتها في البداية، وكل جديد عادة ما يلقي مقاومة في أوّله، ثم أحست بالراحة فاستمرت. أيام وشهور والطبيبة تحاول ترويض جفاء صاحبتنا، تُلِين عضلاتها المتيبسة وتدربها كيف تقطّب ومتى تنفرج، تُقَلبها بين الساخن والبارد وتصبر عليها حين لا تلسعها الحرارة أو تُرجفها البرودة، تَجمعُها بآخرين يشاركونها حالتها لتثبت لها أن وحدتها ليست قدرا، تُوصّل التيار الإنساني إلى مراكز الإحساس فيها رويدا رويدا فتوقظها بعد طول سُبات، تحلُ عقدة لسانها وتدخل في قاموسها أفعالا من نوع أقبل وأرفض وأحب وأكره.

***
غيّرت هذه التجربة حياة صاحبتنا ونقلتها من خانة الموتى إلي خانة الأحياء، بل إن الموتى أنفسهم يشعرون بمن حولهم ويحزنون ويفرحون، هكذا يقول لنا البعض ونحن لم نختبر أبدا صدق قولهم، لكن لماذا لا نصدقهم؟ أحست صاحبتنا براحة كبيرة حين أتيحت لها الفضفضة عن مشاعرها الدفينة وأجادت في اختيار ما يلائم هذه الفضفضة من نظرات العين إلى نبرة الصوت، وعجَبَت جدا كيف كانت تحتمل موات هذه المشاعر سنين عددا. ومع ذلك فإنها حين تفكر قليلا في الأمر تقول: لعل الله أراد بي خيرا فَلَو أن هناء رحلت ومشاعري بهذا الطوفان والتدفق والاندفاع لربما لحقتُ بها، لكن الله سلّم.

***
تلك الانطباعة فيها من الخيال ما فيها، لكن فيها أيضا بعضُ من الحقيقة، فسلام على الطبيبة الساحرة التي ما زالت تأخذ بأيدي بشر كثيرين لتعبر بهم برزخ الإحساس الذي هو الحد الفاصل ما بين الموت والحياة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved