استغاثات مكتومة

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 25 أبريل 2020 - 9:30 م بتوقيت القاهرة

إذا كان هناك مكان غير مستحب التواجد فيه حاليا فهو المستشفيات. عالم كامل بشخوصه وأبطاله وتراتبيته ونظامه الإداري والطبقي والخوف من العدوى. عالم يجمع بين أصحاب البلاطي البيضاء والزرقاء. طبيب يأتي ويمشي في عجالة، وآخر شاب مزهو بنفسه. نساء ورجال عملهم تنظيف غرف لا عدد لها، تتخيل أحدهم وإلى جانبه كوب مملوء بالشاي ورغيف كبير من الخبز الأسمر في أوقات الراحة القليلة. سيدة يغطي ثوبها أكثر مما يكشف تنظر بحقد لكل من حولها وكأنهم مسؤولون عن ما هى فيه، فمخرجو السينما لم ينتبهوا إليها ولم يسندوا لها دور البطولة في أي فيلم. تكره وضع القناع الطبي على وجهها وتتمرد عليه فتدخل إلى غرف المرضى من دونه رغم أنف التعليمات، تتذكر كيف كانت تمسك قبل قليل بياقة سائق الميكروباص حتى لا تسقط هى وحقيبتها بين أرجل الركاب، الجميع كانوا صامتين متلاصقين في سيارة النقل العام التي تستقلها كل يوم ذهابا وإيابا، وكل منهم يحدق في الآخر أو يتثاءب قبالته، تباً لقواعد التباعد الاجتماعي.
***
حين تتابع نشرات الأخبار والتعليقات السياسية، حيث يعطي البعض خلاصة تجاربهم في التنظير، تشعر أنه لا علاقة لما يقال بما يحدث في واقع هؤلاء، فطواقم التمريض تعمل في ظل الطوارىء لمدة أربع وعشرين ساعة متواصلة في ظروف غير آدمية. تتجلى أمام عينيك مشكلات خريجي معاهد وكليات التمريض والمخضرمين من أبناء المهنة وأغلبهم من النساء إذ تبلغ نسبتهم 87.7% من إجمالي عدد العاملين النقابيين، حتى لو كانت أجور المستشفيات الخاصة أفضل من نظيرتها الحكومية، وحتى لو بدأ المجتمع يعترف بخطئه ويرد الاعتبار لمهنة التمريض بدليل ارتفاع درجات القبول بأماكن التعليم والتدريب، لا تزال الأعداد غير كافية والمرتبات كذلك، فنسبة العجز تصل إلى 55 ألفا، إضافة إلى النظرة السلبية والتعامل اللاإنساني أحيانا.
تنظر إلى إحدى الممرضات وهي تجر رجليها وتبدو على وجهها علامات الألم... أجرت العديد من فحوص الإشاعة والرنين المغناطيسي منذ الصباح الباكر، وبما أن الساعة قد تجاوزت منتصف الليل فقد صارت خطوتها ثقيلة ومتثاقلة، لم يعد في مقدورها أن تتصنع اللطف ولا أن تتعاطف مع أي كائن أمامها مهما ظهرت عليه علامات التعب. لا تقوى على التنفس في وجود الكمامة، فصارت تتحايل وتزمجر بلهجتها الصعيدية. تريد أن تنهي مهمتها بأي شكل وتحت أي ظرف. تباً للمريض، وللتباعد الاجتماعي، وللصورة الذهنية لملائكة الرحمة.
***
تقف أمامها حائرا عند مراقبة الأداء العام، تحبها وتكرهها، تثير الكثير من الغيظ والشفقة في آن. تقول في سرك: الهزيمة تنتظر هكذا بشر، وسيغرق العالم في الظلام. تشعر أنه لا أحد سيسمع استغاثتها المكتومة واستغاثة المريض سوى تمثال ضخم، أصم، يقف فوق قاعدة من الحجر، مطلا على شارع خلا من المارة بسبب حظر التجوال. ثم تستيقظ من خيالاتك على صوت صفير أحدهم غير مباليا بكل ما يحدث، يسلم الوردية لفتاة سمراء نحيلة من الفيوم. يمكننا فورا أن نلمح الفارق بينها وبين طاقم التمريض الدائم في المستشفى، فلا تزال تتمتع بالطاقة والحيوية وخفة الروح. تريد أن تخدم من قلبها وأن تبرهن على مستواها بما أنها من أوائل دفعتها، وبعد قضاء فترة تدريب الامتياز سيتم تعيينها كمعيدة في كلية التمريض. لم تيأس بعد، لم يصبها الإحباط. تجري يمينا وشمالا لكي تلبي نداءات المرضى. تعرف أنها ربما تلتحق فيما بعد بأطقم مواجهة الكورونا، فالعديد من زملائها طلاب الامتياز تم إلحاقهم بمستشفيات الحجر الصحي. تدعو الله أن يحفظها في سرك، فهي راضية بما كتبه الله لها. تحب الأفلام الهزلية وتسير في صباح اليوم التالي قاصدة بيتها أو بالأحرى سكن العاملات المغتربات. الأزقة ضيقة كدروب الحياة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved