عن الشرود والنسيان

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الإثنين 25 مايو 2009 - 9:07 م بتوقيت القاهرة

 ينتاب الكثيرين من المحيطين بى فى العمل وخارجه قلق بسبب تدهور حالة نقص الانتباه ووزيادة حالات النسيان المتكرر. كان الاعتقاد السائد لمدة طويلة أن حالات النسيان والشرود ترتبط بالعمر المتقدم إلى أن بدأت هذه الحالات تنتشر بين الصغار والكبار على حد سواء. ما من أحد التقيته مؤخرا فى مصر ودول أخرى إلا وكان شاكيا تدهور ذاكرته. وما من جامعة محترمة فى الولايات المتحدة وأوروبا إلا وخصصت أموالا وباحثين لتقصى أسباب انتشار ظاهرة النسيان واقتراح أساليب لوقفها وطرق لمعالجتها.

وقع ما يقترب من الإجماع بين الباحثين فى الغرب على أن عقل إنسان القرن الحادى والعشرين مصاب بالتشوش. لم يعد يتمكن إنسان العصر من التركيز لفترة معقولة على موضوع بعينه بعد أن صار عقله يقوم بعديد الوظائف فى وقت واحد. هذا الإنسان الجالس لساعات طويلة أمام شاشة الكمبيوتر يقرأ رسائل إلكترونية تتعلق بالعمل، ويجيب عنها وبعدها أو فى أثنائها يقرأ رسائل إلكترونية تتعلق بحياته الخاصة ويجيب عنها، وبعدها أو فى أثنائها يقرأ رسائل ومدونات تناقش هموم المجتمع ويعلق عليها. بينما هو يقرأ رسائل إلكترونية، ويجيب أو يعلق عليها تتنافس على جذب انتباهه إشارات وأصوات صادرة عن الـ«فيس بوك» والتويتر والدردشة ورنين المحمول منبئا بحلول مكالمة أو وصول رسالة نصية.

أتخيل الإنسان المعاصر جالسا أمام الكمبيوتر يتنقل بين شاشة تعرض رسائل إلكترونية وشاشات ويندوز أخرى يقرأ فى إحداها أو يحاول قراءة مقال لكاتب كبير، وفى الأخرى إعلان عن شراء أو بيع عقار وفى الثالثة كشف حسابات شركته والضرائب المستحقة عليها.. ومن الشارع تأتى بإزعاج متعمد وصوت قبيح صفارات سيارات مصلحة المرور المزودة برافعات تنقل العربات المخالفة لقواعد الانتظار، ومعها، وبإزعاج أشد وبقوة تشتيت عالية أبواق عربات الميكروباص. صاحبنا الإنسان المعاصر مستغرق تماما فى عالمه الرقمى لا يفترقان إلا إذا حدث حادث أفقده الوعى أو أجبرته الظروف على إجراء عملية جراحية يعقبها فترة نقاهة فى غرفة إنعاش. هنا فقط يتوقف تدفق المعلومات الإلكترونية والعلاقة الرقمية ويعود المخ، إن سمحت أدوية التخدير ومسكنات الألم، إلى ممارسة الانتباه وتنشيط الذاكرة.

قبل أربعين عاما قال هربرت سيمون أحد كبار الاقتصاديين إن المعلومات، التى تتدفق من الكمبيوتر سوف تستهلك انتباه مستقبليها وتتسبب فى ضعف تركيزهم. وأضاف محذرا من أن الوفرة المعلوماتية سوف تخلق فقرا فى الانتباه وأن الحاجة سوف تفرض على الإنسان إعادة توزيع انتباهه بكفاءة وعدالة تضمنان تحقيق التناسب بين الوفرة الهائلة المتوقعة فى المعلومات ومصادرها وحيز الانتباه، وهو حيز بالضرورة محدود. قال هربرت سيمون: هذا الكلام فى عام 1971 عندما كان جهاز الكمبيوتر العادى ما زال فى حجم سيارة نقل متوسطة، ولم تكن المعلومات التى يوفرها بثراء المعلومات، التى تتدفق من جهاز كمبيوتر حديث فى حجم علبة سجائر.

آن أوان الاعتراف بأن تنبؤات عالم الاقتصاد تحققت. فالمعلومات الوفيرة التى فى حوزتنا والمتدفقة بدون توقف أثمرت نقصا فادحا فى قدرتنا على الانتباه وضعفا شديدا فى قدرتنا على التركيز. وفى هذا الشأن تشير دراسات حديثة فى الولايات المتحدة إلى أن أطفال المدارس أصبحوا خلال العقدين الأخيرين أقل انتباها وأكثر تشوشا وأن بعضهم يقضى أمام شاشة الإنترنت من أربع إلى ست ساعات يوميا. لا أخفى حقيقة أننى وعددا من أصدقائى القلقين نميل إلى تصديق ما يتردد فى بعض صحف ودوريات الغرب، وأشير بصفة خاصة إلى مقال شهير نشرته مجلة أتلانتيك الأمريكية اتهمت فيه «جوجل» وأشباهه من الذين يسيطرون على عقولنا من خلال شاشة الكمبيوتر بأنهم جعلونا أقل ذكاء، وفى قول آخر، أشد غباء، إلى حد أن كثيرا من الكتابات فى الغرب تجاسرت ووصفت هذا الجيل، وأقصد جيلنا الذى نحسب عليه، بأنه الجيل الأغبى فى تاريخ الإنسانية. فإن ما أفزعنى أكثر من أى شىء آخر مقال نشرته مجلة «نيويورك» احتوى تحذيرا للبشرية من أنها تنجر جرا إلى عصر ظلامى جديد كعصور القرون الوسطى، عصر يخلو من «الكتاب» والكتابة. تذكرت على الفور حديث سقراط الفيلسوف عما سماه قوة تدمير الذاكرة وكان يقصد اختراع الكتابة.

لا أعتقد أن حالات الشرود والنسيان وصلت إلى حد تستحق عنده وصفها بالوباء كما حلى للأستاذ دافيد ماير المتخصص فى علوم الأعصاب وأداء المخ أن يؤكد. يقول ماير إنه عندما يتعرض المخ لعملية مركبة تتجاوز قدرته على التحمل فإنه يتحول من تشغيل الجزء المسئول عن الذاكرة إلى تشغيل جزء آخر مسئول عن الأداء الروتينى، الأمر الذى يجعل من الصعب تذكر الحدث بعد وقوعه أو تكرار الفعل بالتفاصيل ذاتها. ويعتقد ماير وكثيرون معه أن الإنسان المعاصر يفقد القدرة تدريجيا على تذكر ما يحدث له بسبب تعدد المهام، التى يطلب من المخ أداءها. ويعتقد آخرون أن المبالغة فى استخدام المعلومات الرقمية يمكن أن تؤدى بالشبان إلى الموت كما يحدث فى كوريا الجنوبية، أو تؤدى إلى أن يصبح الشرود مزمنا، والمعروف أن الشرود المتكرر أو المزمن تعتبره بعض الثقافات ومنها ثقافتنا الشعبية مرادفا للجنون. ولا شك فى أن قراء ويليام شكسبير يعرفون أنه كان يقصد هذا المعنى حين كتب على لسان السير جون فالستاف يصف زوجة الجزار فى رائعته هنرى الرابع «وقادها الفقر إلى الشرود».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved