متطلبات التعايش.. كيف تفيد خبرات إفريقيا مع الأوبئة

العالم يفكر
العالم يفكر

آخر تحديث: الإثنين 25 مايو 2020 - 5:50 م بتوقيت القاهرة

نشر مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة مقالا للكاتب أيمن شـبانة يعرض فيها الخبرات الإفريقية فى التعايش مع الأوبئة على الرغم أن العوامل المسببة للأوبئة مازالت موجودة... نعرض منه ما يلى:
فى الوقت الذى سيطر فيه الهلع على معظم دول عالم الشمال المتقدم، بسبب الانتشار السريع وواسع النطاق لفيروس كورونا المستجد (كوفيدــ19)، كانت القارة الإفريقية أفضل حالا، قياسا بتوقيت انتشار الوباء بالقارة، وعدد حالات الإصابة والوفاة الناجمة عنه، ومقدار الخوف مما قد يُصيبها من خسائر بشرية ومادية. ويعود ذلك إلى عوامل مختلفة أبرزها الخبرات العريضة التى تملكها القارة فى مواجهة الأمراض والأوبئة، وقدرة حكوماتها وشعوبها على التعايش معها، واستخلاص الدروس المستفادة منها. لذا تبدو أهمية تناول تجارب مواجهة الأوبئة فى إفريقيا، وانعكاس ذلك فى مواجهتها لأزمة كورونا.
بداية، لم يكن وباء كورونا سوى مجرد رقم جديد يُضاف إلى قائمة الأوبئة الأخرى الأكثر سوءا التى تكررت أكثر من مرة وظلت العوامل المسببة لها قائمة. وكان تواتر الإصابة بتلك الأوبئة، وقصر المدة الزمنية بين كل جائحة وأخرى، وارتفاع أعداد المصابين والوفيات، وتفاقم الخسائر الاقتصادية الناجمة عنها؛ دافعا للحكومات إلى تخفيف قيود الحظر الذى تفرضه على مواطنيها تدريجيا، لتستمر الحياة بالتوازى مع تنامى المعارف والمدركات بشأن جميع أبعاد تلك الأوبئة.

التركيز على الجانب الوقائى
على سبيل المثال، واجهت القارة الانتشار المتكرر للإيبولا أعوام 1976 و2007 و2014 و2018 بعدم إيقاف الحياة بالبلاد المنكوبة. بل إنها نجحت فى خفض عدد الوفيات بين المصابين من 90% عام 1976 إلى 70% عام 2014 ثم 66% عام 2018. وهنا تحسب لنيجيريا تجربتها الناجحة فى احتواء الإيبولا، بالتركيز على الوقاية والاكتشاف المبكر أكثر من الاهتمام بجوانب العلاج. فبمجرد انتشار الوباء فى دول جوارها سارعت نيجيريا بإغلاق حدود البلاد، والتوعية والتباعد الاجتماعى، والتقصى والحجر الصحى والعزل بالمستشفيات.

اعتماد أسلوب «مناعة القطيع»
كثيرا ما تلجأ الدول الإفريقية إلى اعتماد ما يُسمى أسلوب «مناعة القطيع»، فى مواجهة الأوبئة. وقد طبق ذلك بالفعل فى مواجهة شلل الأطفال، ليتم القضاء عليه نهائيا بالقارة عام 2016. كما أنه يطبق حاليا بالنسبة للملاريا والحمى الصفراء. فالتعايش مع المرض يُكسب أجسام البعض القدرة على إنتاج أجسام مضادة، قد تمثل عاملا وقائيا ضد الإصابة به مستقبلا. ومن الجدير بالذكر أن هناك ثلاثة عوامل قد اضطرت الدول الإفريقية لاعتماد أسلوب «مناعة القطيع» هى:
تقاعس شركات الأدوية عن إنتاج اللقاحات، اقتناعا منها بعدم جدوى ذلك على مستوى الربح المادى، أو نتيجة لسرعة تحور الفيروسات المسببة للأوبئة، ومقاومتها للأدوية المنتجة... وقد يصل الأمر ببعض الشركات إلى إجبار الحكومات الإفريقية على استخدام الأفارقة بشكل غير أخلاقى، كحقل تجارب للأدوية واللقاحات الجديدة، وهو ما حدث خلال أزمة كورونا، حيث عرض أحد الأطباء الفرنسيين أن تكون إفريقيا هى ميدان الاختبار للقاحات ضد الفيروس الجديد، وهو الأمر الذى أدانته منظمة الصحة العالمية بشدة.
منح الأولوية للاقتصاد على حساب المرضى، ومثال ذلك رفض الرئيس «تابو مبيكى» فى جمهورية جنوب إفريقيا الاعتراف بالصلة بين فيروس نقص المناعة المكتسب وبين الأعراض المترتبة عليه. مؤكدا أن الفقر هو السبب الأساسى لمعظم تلك الأعراض. وكانت النتيجة هى أن بلاده أصبحت أكبر مركز للإيذر على مستوى العالم، بينما كان العلاج الوحيد المتاح آنذاك هو المكملات الغذائية.
التركيب الديمغرافى للشعوب الإفريقية وغلبة فئة الشباب مقارنة بكبار السن يقلل أعداد المواطنين المحتمل إصابتهم بالمرض، ويخفض أعداد الذين سيحتاجون للرعاية المكثفة، وهو ما يعنى انخفاض عدد الوفيات. ولعل هذا العامل هو ما يجعل الحكومات الإفريقية أكثر اطمئنانا فى التعامل مع أزمة كورونا، التى لا يمكن مقارنة خسائرها البشرية أو الاقتصادية بالخسائر الناجمة عن الملاريا ــ مثلا ــ التى تتسبب فى وفاة مليون إفريقى سنويا، بمعدل 3000 شخص يوميا.

مواجهة تردى القطاعات الصحية
يُمثل تردى مستوى القطاعات الصحية تحديا كبيرا فى إفريقيا، حيث تبلغ نسبة الإنفاق على القطاع الصحى بالقارة 1% فقط من الإنفاق العالمى، فيما تبلغ نسبة العاملين بالقطاع الصحى بها 3% من العاملين بالقطاع عالميا. وقد استجابت القارة لهذا التحدى عبر خمسة حلول متكاملة هى:
حماية العاملين بالقطاع الصحى وتعزيز إجراءات الوقاية داخل المستشفيات، باعتبار أن ذلك هو الشرط الأول للحفاظ على المنظومة الصحية الضعيفة أساسا من الانهيار، خاصة بعد التقارير التى تكشف عن ارتفاع نسب العدوى بين الأطقم الطبية بالقارة إلى 10% على الأقل خلال فترات الوباء.
المراكز الخاصة والمؤسسات الدينية التى تلعب دورا مكملا للأدوار الحكومية، خاصة عندما تضطر أغلب الدول لخفض إنفاقها الحكومى على الصحة، استجابة لشروط صندوق النقد الدولى والجهات المانحة. كما تقوم الكنائس والمراكز الإسلامية بدور فاعل فى المواجهة، حيث تملك المنظمات الدينية زهاء 30% على الأقل من البنية الصحية الأساسية بإفريقيا.
تكثيف جهود التوعية والتغلب على المشكلات المتعلقة بنقص الوعى لدى مواطنيها، خاصة بين الفئات غير المتعلمة بالمناطق الريفية، وذلك عبر الإذاعات المحلية، والأعمال الدرامية، والملصقات التوعوية، والمجتمع المدنى، والقيادات القبلية، التى تعتبر الخط الأمامى للوقاية من الأمراض والاستجابة لها.
التعاون الإقليمى الذى يعتبر ضرورة يفرضها الانتشار الأفقى للأوبئة، حيث تنتشر الحمى الصفراء مثلا فى 34 دولة إفريقية من بين 47 دولة فى العالم. وهنا تبدو أهمية إعمال آليات التعاون الإقليمى، ومن أهمها: المركز الإفريقى لمكافحة الأوبئة فى إطار الاتحاد الإفريقى، وشبكة غرب إفريقيا لمكافحة السل والإيدز والملاريا، ومبادرة الرئيس المصرى لعلاج مليون مواطن إفريقى من فيروس «سى». وتخصيص يوم 25 أبريل يوما سنويا لمكافحة الملاريا بالقارة. وتبادل الخبرات عبر الدول.
تم تطبيق هذه الآلية خلال أزمة كورونا الراهنة، حيث عقد وزراء الصحة الأفارقة فى منتصف فبراير 2020 اجتماعا طارئا لصياغة استراتيجية قارية لمواجهة الفيروس. واجتمع وزراء المالية الأفارقة فى مارس 2020 لمناقشة العواقب المالية المحتملة للفيروس وطرق معالجتها. كما تم إنشاء صندوق إفريقى لدعم جهود مكافحة الوباء.
المساعدات الدولية التى غالبا ما تتجه الدول الإفريقية إليها لمواجهة الأوبئة. حدث ذلك خلال أزمة إيبولا عام 2014، وهو ما دفع مجلس الأمن الدولى لاتخاذ قرار بالإجماع لوضع حد لسياسة عزل الدول المصابة (ليبيريا، سيراليون، غينيا)، ودعمها بشكل عاجل، فى سابقة هى الأولى من نوعها التى يتخذ فيها المجلس إجراءات لمواجهة أحد الأوبئة بدعوى تهديدها للسلم والأمن الدوليين. كما قدم البنك الدولى أكثر من 500 مليون دولار لحكومات الدول الثلاث، لتعويض خسائرها بسبب الوباء، والتى بلغت 1,6 مليار دولار.
كما ساهم التعاون بين الدول الإفريقية ووكالات الأمم المتحدة المتخصصة فى توفير الحماية للفئات الأكثر ضعفا فى زمن الأوبئة. ومثال ذلك تعاون دول غرب إفريقيا ومفوضية الأمم المتحدة لشئون اللاجئين خلال أزمة إيبولا، والذى كان عاملا أساسيا فى إدماج اللاجئين والنازحين ضمن الخطط الوطنية لمكافحة الوباء. وحرصت الدول الإفريقية أيضا على الاستفادة من إمكانيات منظمة الصحة العالمية والدول الكبرى المتنافسة بالقارة فى دعم قطاعاتها الصحية.
وأصدر مؤتمر طوكيو للتنمية الدولية فى إفريقيا (تيكاد) إعلانا فى أغسطس 2019 لمواجهة الأمراض والأوبئة وتحقيق الأمن الغذائى بالقارة. وقد ساهم ذلك فى تراكم خبرات عريضة لدى الدول الإفريقية. وأكسبها القدرة على التمييز بين الجهات المانحة من حيث قدرتها وسرعتها فى الاستجابة لنداءات القارة. وقد انعكس ذلك على مواجهة أزمة كورونا بإفريقيا، حيث تم إطلاق نداءات عديدة لطلب المساعدة الدولية، بغية اتخاذ إجراءات احترازية قبل استفحال الخطر بالقارة، بالتزامن مع الترويج لتقارير تُحذر من وفاة 300 ألف إفريقى على الأقل بالفيروس. كما طالبت بعض الدول بإسقاط الديون الإفريقية أو تعليق سداد أقساط الديون نتيجة للوباء.
وقد استجابت الولايات المتحدة لتلك المخاوف فى أبريل 2020 بتخصيص 170 مليون دولار لمساعدة الدول الإفريقية فى مواجهة الأزمة، وتنسيق برامج تدريبية للأطقم الطبية بإثيوبيا وناميبيا والكونغو الديمقراطية وغينيا، من خلال الوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID). كما أعلنت الصين تقديم مساعدات مالية طارئة لإفريقيا. وعقد خبرائها مؤتمرات عبر الفيديو لتبادل الخبرات بشأن الوباء مع نظرائهم الأفارقة. وقامت الشركات الصينية والمنظمات غير الحكومية والصينيون المقيمون بإفريقيا بتقديم المساعدات للحكومات الإفريقية.

توفير الاحتياجات الغذائية
تتعايش الدول والشعوب الإفريقية مع مشكلة نقص الغذاء فى زمن الأوبئة بالاعتماد على أساليب عديدة، أهمها: تأمين المساعدات الغذائية عبر التواصل مع منظمة الأغذية والزراعة والجهات المانحة، والاعتماد على نمط الزراعة المعيشية، والأنشطة المرتبطة بها، حيث تقوم النساء عادة بزراعة المناطق المحيطة بالمنازل بالمحاصيل الغذائية الأساسية، وتربية الماشية للاكتفاء الذاتى، وجمع الأطعمة البرية، وتبادلها مع الجيران كنوع من التضامن الاجتماعى بين أبناء القرى.
وبالرغم من الخبرات الإفريقية فى مكافحة الأوبئة والتعايش معها، لكن ذلك لا يُعد ضمانة كافية لمواجهة فيروس كورونا، نظرا للافتقار إلى لقاح حتى الآن ضد الفيروس، وتدهور الحالة الأمنية فى الدول المنكوبة بالحروب الأهلية، ومنها: جنوب السودان، والصومال، وإفريقيا الوسطى، وصعوبة تطبيق إجراءات التباعد الاجتماعى بمخيمات اللاجئين والنازحين، وعدم ثبوت أثر ارتفاع درجات الحرارة فى القضاء على الفيروس.
وبالتالى، فإن الدرس الأكبر المستفاد هنا هو ضرورة تطبيق استراتيجية إفريقية تحت رعاية الاتحاد الإفريقى والجهات المانحة لزيادة مخصصات تنمية البحث العلمى وتطوير القطاعات الصحية بالقارة. فالتكلفة المرتبطة بذلك لا يمكن مقارنتها بالخسائر البشرية والاقتصادية الفادحة للأوبئة، خاصة عندما تحدث بشكل متزامن، خلال دورات تعاقب قصيرة المدى.

النص الأصلى

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved