عندما يتلاقى المجتمع مع التاريخ والطبيعة

نبيل الهادي
نبيل الهادي

آخر تحديث: الثلاثاء 25 مايو 2021 - 8:00 م بتوقيت القاهرة

مصر هى مكان صحراوى يمثل جزءا من الصحراء الكبرى والتى تبدأ من المغرب كما يظهر فى خريطة إفريقيا، ولا تقطع تلك الصحراء الكبرى إلا بعض من الواحات التى تمثل نقاطا صغيرة من الحياة فى وسط مكان يكاد يخلو من مظاهر الحياة والتى تدعم حياة البشر أو حتى الحيوانات الكبيرة أو الأشجار. إلى جانب تلك الواحات يخترق نهر النيل الصحراء ويجلب معه الماء الذى يحول جانبيه إلى منطقة تزدهر فيها الحياة. اختراق نهر النيل للصحراء يمثل العنصر الطبيعى الأكثر تأثيرا فى تاريخ مصر؛ حيث مياه النيل العذبة، التى تعد أيضا الحامل الرئيسى للعناصر المعدنية والمغذيات الأخرى القادمة إلينا من الهضبة الإثيوبية أساسا ومن أماكن أخرى، والتى تترسب على جانبى نهر النيل مكونة تربة عضوية غنية، لا تسمح للحياة النباتية بالبدء فقط ولكنها تدعمها فى أطوارها المختلفة لتزدهر الحياة النباتية والحيوانية. فى أماكن معينة عبر امتداد النيل تنبسط الأرض ما يمكن من زراعتها والاعتماد على محاصيلها الوفيرة، بالإضافة إلى قربها من طرق التجارة مع الأقاليم المختلفة سواء فى مصر أو حتى فى ما حولها من بلاد، وهكذا بدأت تظهر النويات الأولية لأماكن الاستيطان والعمران الأولى منذ سبعة آلاف عام وربما أكثر. كانت منف أحد تلك الأماكن التى تشكلت بين النيل والصحراء حيث تراكم الطمى الغنى المتجدد كل عام مع قدوم الفيضان الذى يساعد أيضا فى تصريف المياه الزائدة بما يمكن التربة من التجدد والحياة بصورة لا يتدخل فيها البشر. هذا التوازن بين الطبيعة والمجتمع الذى من خلاله قامت الطبيعة بدوراتها السنوية، استفاد منه السكان وأقاموا حضارتهم من خلال حسن فهمهم لتلك الإيقاعات واحترامها لحد بلغ أحيانا التقديس الذى يعبر عن مدى اعتماد حياتهم عليها.
***
بعد أن استمر العمران فى مدينة منف لمدة قد تصل إلى ثلاثة آلاف عام فقدت أهميتها وتدهورت بعد إنشاء مدن مثل الإسكندرية وحصون مثل بابليون، وبعد مرور السنين ظهرت قرية ميت رهينة التى تعد بمثابة الوريث العمرانى لتلك المدينة التاريخية. وميت رهينة التى تقع جنوب الجيزة وأيضا عبر النيل غربا من حلوان تعد مكانا مميزا للتأمل فى ارتباط المجتمع بالتاريخ والطبيعة فى مصر، وهو ما شجعنا على دراستها ومحاولة استكشاف التحديات المتعددة التى تواجهها وكيف يمكن تحويلها إلى فرص للازدهار فى المستقبل القريب.
فى تاريخنا الحديث توضح الخريطة الموجودة فى كتاب وصف مصر قرية ميت رهينة التى تقتصر على منطقة داير الناحية القديمة، بينما يظهر إلى الشرق منها تجمع أصغر منها يسمى البدرشين. وتوضح الرسومات الأخرى للحملة الفرنسية كما تظهر الصور التى التقطت لميت رهينة وحتى منتصف القرن العشرين كيف غلب على المكان الأراضى الزراعية. ولا شك أن تأثير الفيضان، حتى وإن ضعف بعد تشييد خزان أسوان فى بداية القرن العشرين وتعليته مرتين بعد ذلك، كان كافيا لردع من أراد البناء على الأراضى الزراعية والتهديد بخسارة ما بناه فى الفيضان القادم... انتهى ذلك بالطبع مع إنشاء السد العالى وانتهاء الفيضان فى سنة 1963.
عندما تزور قرية ميت رهينة اليوم لا تشعر بذلك الارتباط الوثيق بين المجتمع والطبيعة الذى مكن الحضارة الرائعة أن تزدهر فى هذا المكان وأن تترك لنا تلك الآثار التى ما يزال جزء كبير منها مدفونا تحت أرضها. فى آخر تقدير رسمى لسكان ميت رهينة طبقا لجهاز التعبئة العامة والإحصاء فى عام 2017 قدر عددهم بنحو أربعة وثلاثين ألف نسمة يعيشون فى منطقة ربما لم يكن فيها إلا بضع مئات فى وقت الحملة الفرنسية منذ أكثر قليلا من مائتى عام. ويشتكى سكان المنطقة من غياب الصرف الصحى الذى يجعل أغلبهم يلجأ للصرف على الترنشات المنشأة فى الشوارع والتى يتم نزحها بمقابل مالى كل أسبوعين أو ثلاثة، وللأسف يتم إلقاء جزء كبير من ذلك الصرف فى المصارف الزراعية العمومية القريبة. وفى بعض الحالات كما رأيت يقوم بعض السكان بتوصيل الصرف الصحى للمنزل مباشرة على المصرف الفرعى القريب. وبينما تقلصت الأراضى الزراعية كثيرا وحل محلها العديد من المساكن التى لم تعد تخشى أن يغرقها الفيضان، تغيرت أيضا المحاصيل التى كانت تزرع وأصبح هناك اهتمام واضح بالمحاصيل التى تخصص كعلف للماشية. والتى لا تزرع للعائد الاقتصادى فقط ولكن لأنها تتحمل مشاكل التربة والمياه.
***
نتعلم من التاريخ الكثير، وبعض ما نتعلمه منه يشرح لنا لماذا وصلنا إلى ما وصلنا إليه، وكيف أن المجتمع وحضارته يكونان قادرين على الازدهار ماداما قادرين على التعايش بانسجام وكفاءة مع الطبيعة الواهبة للحياة والخيرات. وبالرغم من تصور الإنسان أنه قادر على السيطرة على الطبيعة وامتصاص خيرات أكثر منها كما يظهر فى بناء السدود مثلا فى أنحاء العالم وليس فى مصر وحدها. فإن الطبيعة ترسل لنا بعض النذر لعلنا ننتبه فى كيفية تعاملنا مع الطبيعة ونراجع مشروعاتنا الهندسية الكبرى التى ربما يهدد بعضها بفقدان المزيد من قدرتنا على استرداد بعض من التوازن الضرورى مع عناصر الطبيعة.
وتمثل التحديات التى تواجه سكان ميت رهينة وآلاف من التجمعات العمرانية المماثلة الأخرى فى الوادى والدلتا أحد تجليات تجاهلنا للطبيعة وإيقاعاتها الواهبة للحياة، ولكن هل يمكننا فى سبيل استعادة الحياة اللائقة لسكان ميت رهينة أن نبدأ فى استعادة تلك العلاقة الجوهرية مع الطبيعة من خلال استعادة منظومة المياه المتدفقة والتى تسمح بماء نظيف وآمن للسكان والمزروعات واستعادة تدريجية لجودة التربة والهواء؟ وإلى أى مدى يرتبط هذا بالخطط والتخيلات الكبرى سواء على مستوى الإقليم المحيط أو على مستوى مصر أو منظومة وادى النيل ككل. هذا هو السؤال الذى نحاول أن نستكشف إمكانات الإجابة عليه فى ضوء قدراتنا المحلية العلمية والمادية ونعتقد أن إجابته هامة ليس فقط لميت رهينة ولكن للعديد من المناطق المشابهة على امتداد الوادى والدلتا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved