نهاية حالة الغموض الاستراتيجى مع الصين

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 25 مايو 2022 - 9:53 م بتوقيت القاهرة

لم أتفاجأ بالسؤال ولا بالإجابة. المسرح معد ومكتمل وصفحات السيناريو مفتوحة لمن يريد أن يقرأ ليعرف ولمن يريد أن يقرأ ليؤدى الدور المكتوب. أقيم المسرح فى شرق آسيا والمناسبة زيارة يقوم بها الرئيس الأمريكى لحليفين لا غبار على علاقتيهما بالولايات المتحدة. وكالعادة فى زيارات الرؤساء ينعقد مؤتمر صحفى. وفى المؤتمر صحفى معتمد مكلف بتوجيه سؤال إلى الرئيس الأمريكى. السؤال مطروح بالفعل منذ مرحلة التمهيد لاشتعال أزمة حول أوكرانيا، طرحه معلقون وخبراء فى السياسة الدولية ولكن جرى الطرح على المسرح الأوروبى كسؤال ثانوى. كنت، وغيرى كثيرون، فى انتظار إعادة طرحه وفى انتظار إجابة بعينها منذ اللحظة التى رأينا عندها المستر بايدين يتوجه للطائرة التى تنقله من الولايات المتحدة إلى المسرح الآسيوى.
لم نهتم بالتوقعات حول صياغة السؤال والإجابة عليه. كان المهم بالنسبة لى شخصيا أن يصدر أخيرا الإعلان صراحة وعلى أرض آسيوية عن نهاية حالة الغموض الاستراتيجى فى السياسة الأمريكية تجاه الصين. كان المهم أيضا أن نتعرف على الدول التى سوف تلعب أدوارا رئيسية فى مرحلة الوضوح الاستراتيجى. لم تكن الساحة الآسيوية مستعدة استعداد الساحة الأوروبية عشية اشتعال الأزمة الأوكرانية. التهديد الصينى لدول شرق وجنوب شرق آسيا لم يكن ماثلا مثول التهديد الروسى لدول شرق أوروبا فضلا عن أن آسيا والصين بخاصة بعد الحرب العالمية الثانية لم تكن فى حالة تشجع الولايات المتحدة على إنشاء حلف مثير للشغب والجدل كالأطلسى.
على مضض اعترف هنرى كيسنجر ومعه الرئيس ريتشارد نيكسون بالصين الشعبية. كانا فى حاجة إليها لإنهاء حربهما فى فيتنام وفى صنع تعديل مناسب وضرورى فى جانب مهم من جوانب توازن القوة فى النظام الدولى فى تلك المرحلة. وعلى مضض سمحت واشنطن للصين الناهضة بالاندماج فى النظام الاقتصادى العالمى وبالحصول على العضوية فى منظمة التجارة العالمية. وعلى مضض سايرت أمريكا المجتمع الدولى الذى راح يسحب اعترافه بالصين الوطنية ممثلا للأمة الصينية ويمنحه للصين الشعبية. أقول وأكرر عبارة على مضض لأننى أحد القائلين وبأسف شديد أن العنصرية الأمريكية ضد الرجل الأصفر لعبت دورا مشهودا منذ نهاية القرن التاسع عشر فى صياغة علاقات أمريكا بآسيا عموما وباليابان والصين بصفة خاصة. لن أذهب بعيدا فى إثبات ما أقول. يكفى أن أذكر القارئ بالسهولة التى استطاع بها الرئيس السابق دونالد ترامب تثبيت حالة العداء مع الصين ولم تكن الصين تمثل تهديدا يذكر.
تظهر المغالاة فى وصف العلاقة مع الصين بالعداء من إجابة الرئيس بايدين على السؤال عن مستقبل العلاقة مع الصين. يقول الرئيس صاحب الخبرة الطويلة فى السياسة الخارجية والعلاقات الدولية، وبمساعدة واضحة من الصحفية المكلفة بتوجيه السؤال، يقول أنه من منظوره فإن حالة تايوان تشبه حالة أوكرانيا. والغريب فى الأمر أن أحد كبار خبراء العلاقات الدولية والسياسة الخارجية الأمريكية اعتبر هذه العبارة كما وردت فى تصريح الرئيس الأمريكى نقلة تاريخية واستراتيجية حيوية لأنها «أنهت حالة الغموض الاستراتيجى» فى السياسة الخارجية الأمريكية. تولد الغموض، كما فهمته عبر العقود الأخيرة من اعتراف أمريكا الموثق والمشهود بتايوان جزءا من الوطن الأم وهى الصين، وفى الوقت نفسه كيانا يفرض على أمريكا الدفاع عنه إذا تجاسرت الصين فتدخلت فيه، وأن أمريكا ستتدخل «عسكريا» إذا وقع غزو للجزيرة من جانب الوطن الأم.
• • •
هنا يأتى «الوضوح الاستراتيجى». أمريكا من الآن فصاعدا ستتعامل مع الصين شكلا وموضوعا كعدو. أمريكا لن تضع أى اعتبار لحقيقة أن تايوان جزء لا يتجزأ من الصين. وتؤكد فى الوقت نفسه أنها لن تغفر لحكومة الصين تدخلها فى هونج كونج ضد أنصار الحركة الديموقراطية. قال إن الحالة مع تايوان تشبه الحالة مع أوكرانيا. خطورة الوقوع فى هذا التشبيه أنه يحمل فى طياته النية فى التدخل فى الأزمة التايوانية، القادمة حتما، وطبقا لإعلانه بالوضوح الكافى نيته فى التدخل فيها عسكريا. يمكننا بكل بساطة توقع أن يتدخل عسكريا فى تايوان فى أى وقت يشاء إذا فسر البنتاجون مثلا أو الاستخبارات مناورة عسكرية أو ابتكار سلاح بعينه بمثابة «اعتداء» على تايوان، أو إذا طلبت أمريكا من تايوان استفزاز بكين أو فعلت ما يجرح صورة الحزب الشيوعى الصينى لدى شعب الصين وشعوب آسيا.
بهذا التدخل أو ذاك أو بهما معا تأمل القوى الداخلية ذات النفوذ الاستراتيجى فى عمليات صنع السياسة الأمريكية أن تتغير خريطة توازن القوى الدولية على نحو يخدم المصالح الأمريكية الجديدة ويتناسب مع الأوزان الحقيقية الراهنة للقوى العظمى، إن وجدت. تأمل أيضا أن توقف نمو قوى دولية تسعى للنهوض والصعود وأن تعزز صعود قوى وسطى، كالهند مثلا، ولكن ضمن قواعد سلوك تضعها وتشرف على تنفيذها الولايات المتحدة بعد أن تتحقق لها صفة القطب الأوحد.
لاحظنا خلال السنوات الأخيرة أن خللا ما أصاب تناسق وتناسب مكونات النظام العالمى. صرنا مثلا نعانى من مؤسسات فى النظام الدولى القائم لا تعمل بالكفاءة اللازمة وأحيانا تقصر تقصيرا مخلا فى أداء واجباتها. صرنا نتعامل مع أهم مؤسسات فى هذا النظام أصابها ما يشبه الشلل. من هذه المؤسسات على سبيل المثال وليس الحصر أهمها على الإطلاق وأقصد مجلس الأمن الدولى وصندوق النقد الدولى ومنظمة التجارة العالمية. الأسباب ليست قليلة أو بسيطة. منها وكذلك على سبيل المثال صعود وانحسار كثير من عناصر العولمة، هناك أيضا تعدد ظواهر التمرد فى قطاع أسواق الطاقة، وأزمات متعاقبة فى الرأسمالية العالمية وفجوات متزايدة الاتساع والعمق فى الدخول وفى مستويات النخب والطبقات الحاكمة فى العالم، وصعود أهمية شركات التكنولوجيا والمنتجات الرقمية. بكلمات أخرى صارت أمريكا، باعتبارها القوة الأقوى نسبيا وإن منحدرة فى حد ذاتها، تدرك شدة الحاجة إلى ابتداع منظومة جديدة لقواعد وأحكام النظام الدولى لتحل محل منظومة أصابها الوهن والعجز بسبب ما لحق بأقطاب النظام الدولى وتوازن القوة بينها من تحولات. كثير من هذه التحولات جوهرى، وبعضها يجرى التعامل معه اليوم تحت عنوان المواجهة الأطلسية مع روسيا، وبعض آخر تستعد أمريكا للتعامل معه بالتعاون مع أستراليا ودول فى شرق آسيا تحت عنوان مواجهة «عسكرية» محتملة مع الصين.
• • •
أيامنا الراهنة أراها حبلى بتوقعات عنيفة ومبتكرة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved