من دخل القصر فهو آمن

أميمة كمال
أميمة كمال

آخر تحديث: الأربعاء 25 يونيو 2014 - 6:00 ص بتوقيت القاهرة

لم أشارك بعض الذين انتقدوا صور المصريين الذين رقصوا فى شوارع مصر خلال أيام الانتخابات، أو خلال يوم الاحتفالات الطويل ابتهاجا بنجاح الرئيس السيسى، لم أشاركهم الرأى. واعتبرت أن طريقة كل فرد أو فئة فى المجتمع فى التعبير عن الفرحة بتحقيق ما يرونه أملا لهم، هى من صميم الحرية. لم أنتقدهم، ولكنى حسدتهم. وتمنيت أن تغفو عينى عما لا يرونه، حتى أستطيع أن أرقص معهم.

كيف ترقصون. ألا ترون؟ كنت أسألهم فى كل مرة أراهم يتمايلون فيها، وأكتشف بعدها أن صوتى لم يكن يخرج. كنت فقط أحادث نفسى، وأعتقدت أنهم يسمعون ما أنطق به. كنت أحسدهم لأنهم لا يلحظون أن أذرع الظلم تمتد فى براح، تضيق مساحته فى هذا البلد يوما بعد يوم.

•••

لم أستطع أن أرقص معهم لأن مشهد هؤلاء العمال الذين جلست معهم منذ عدة أشهر على مقربة من وزارة القوى العاملة ماثل فى ذهنى، ولا يفارقنى. هؤلاء كانوا يعملون فى إحدى الشركات فى برج العرب. والشركة تابعة لشركة أمريكية شهيرة. بعضهم شباب فى مقتبل العمر، والبعض تخطى هذه المرحلة بقليل. ولكن كانوا جميعا يشعرون بظلم فادح من عجز وزارة القوى العاملة أمام هيبة ممثل السفارة الأمريكية. الذى أتى إلى الوزارة من أجل التفاوض حول حل أزمة العمال مع الشركة، التى بدأت بمنع العمال من العمل، وبعدها بغلق الشركة بدون إذن من السلطات المصرية. والتى انتهت بفصل 76 عاملا. من بينهم كل أعضاء اللجنة النقابية التى كانت تطالب بحقوق العمال فى صرف الأرباح السنوية، وتنفيذ الاتفاق الذى تم التوصل إليه بين الطرفين، والذى يقضى بتحسين ظروف العمل، وضبط عقود الموظفين المؤقتين، وبالاعتراف باللجنة النقابية ككمثل للعمال عند التفاوض. ولم يقف الأمر عند هذا الحد بل استعانت الشركة بإحدى شركات الأمن الخاصة، واعتدت على العمال المعتصمين بالبلطجية وبالكلاب البوليسية لإرهابهم. بعد أن قطعت عنهم المياه والكهرباء.

كانوا هؤلاء العمال يومها مفعمين بالأمل موقنين بالنصر، وبأنهم سيعودون إلى زملائهم، الذين أوكلوا لهم مهمه التفاوض فى القاهرة، مظفرين بالحقوق التى اغتصبتها منهم الشركة. خاصة أنهم كانوا يحملون أوراقا يعلوها رقم البلاغ الذى تقدموا به للنائب العام، متصورين أن العدل حتما يكون حليفا لأصحاب الحق. حماس هؤلاء سرعان ما بدأ يتسرب لى، خاصة أن أصواتا عنترية لأشهر المذيعين فى الفضائيات كان صداها لايزال يتردد فى أذنى. وهى تطلق التكبيرات ابتهاجا بالاستقلال الوطنى الذى نعيشه فى عهد الرئيس الجديد. وبأن هيبة الدولة العائدة بقوة لا يغلبها أجنبى ولا غير أجنبى. لم أرقص مع الراقصين فى الشوارع لأن هؤلاء العمال عادوا إلى زملائهم منكسرين، مهزومين بعد أن تخلت عنهم كل السلطات المصرية. ولم يعد أحد منهم موقنا أن العدل حتما حليف للحق. وتذكروا فقط أن الحق يضيع عندما يكون الباطل مسنود الظهر. ألا ترقصون؟

•••

لم أرقص لأنى سمعت قصصا دامية عن عمال كانوا يعملون لدى رجل أعمال لكل العصور ويعد أمبراطور للسيراميك. هؤلاء الذين صدقوا أن ثورة يناير جاءت لصلب عود المطالبين بالحقوق. وآمنوا أن من حقهم تشكيل نقابات تدافع عن حقوق العاملين فى الأرباح السنوية، وفى العلاوات، وتحسين ظروف العمل والتى ينص عليها القانون. فدفعوا الثمن غاليا من أرزاقهم، وأرزاق أولادهم. فقد تم فصل 29 من القيادات النقابية بشكل ملتو، حيث أجبروا جميعا على تقديم استقالاتهم لإنقاذ ماء وجه رجل الأعمال.

وعندما ذهبت إلى السويس لأقابل هؤلاء الذين قبلوا صاغرين مستسلمين تقديم استقالاتهم من الشركة، بعد أن تدخل أحد القادة العسكريين فى تلك المنطقة منتصرا لرجل الأعمال. وأجريت محاولات عديدة للاتصال على تليفونات عدد منهم، وجدتها كلها مغلقة بفعل فاعل. وبعدها نصحنى أحد زملائهم بألا أكرر المحاولة، لأن أحدا منهم لن يرد. فقد أغلقوا تليفوناتهم، ويعيشون فى خوف من جبروت صاحب العمل المسنود ظهره على السلطة. وإنه تم شراء صمتهم بمساومتهم على التعويضات المالية.

«إنه الانكسار أمام رأس المال المتجبر، والذى يتباهى أنه متحصن بالسلطة» هذا التعبير قاله بحسرة أحد النقابيين فى السويس. والذى سبق أن دفع عمله ثمنا لإيمانه بحقه فى العمل النقابى. فقد أُجبر هو الآخر على ترك عمله فى ميناء السخنة الذى تديره شركة موانئ دبى بعد أن وقف مدافعا عن حقوق العمال فى التثبيت، بدلا من العمل من خلال شركات توريد العمالة. وحصل على تعويض كبير سددته الشركة نظير أن يكون عبرة لزملائه المتشبثين بحقهم النقابى.

ولا أعرف حقيقة شعور هؤلاء العمال، المستقيلين جبرا، من شركة السيراميك، عندما كانوا يشاهدون رجل الأعمال، وهو جالس منتشيا فى احتفال قصر القبة يوم تنصيب الرئيس. مزهوا بأن الفضائيات ستظهره على الهواء متصدرا الصفوف مع كبار القوم. إذن لا خوف من ممارسة المزيد من الجبروت، لأنه من دخل القصر فهو آمن. هكذا كانت تنطق قسمات وجهه. ألا ترقصون؟

•••

ولم أشارك الفرحين رقصهم، لأنى رأيت كيف تنتهك حقوق العمال فى إحدى الشركات فى السويس. التى يديرها رجل أعمال سعودى، يرى أن العمال ربما عليهم أن يدفعوا ثمن رد الجميل للمملكة العربية السعودية. التى تقدم لمصر الدعم المالى والسياسى. وربما أيضا يشاركه الرأى بعض المسئولين الذين يرون أنه من باب الكرم أن تقف السلطات فى مصر فى صف كل من يأتى من المملكة، حتى ولو على حساب قطع أرزاق العمال. الشركة قامت بفصل كل أعضاء اللجنة النقابية المستقلة. وأصدرت منشورا مليئا بالتهديد والوعيد بفصل مزيد من العمال، إذا لم يفض العمال أعتصامهم الذى نظموه اعتراضا على فصل النقابيين. وبدأ رجال الأعمال يدخلون على الخط لتخويف المسئولين ملوحين بورقة تطفيش الاستثمارات. التى يعرفون جيدا أنها تُرجف المسئولين فى مصر. ولم تكتف «الجمعية المصرية السعودية لرجال الأعمال» بمناشدة رئيس الوزراء إبراهيم محلب لحماية الاستثمار السعودى، ولكن أرسلت ذات المناشدة لقائد الجيش الثانى الميدانى. وكأنها تريد استدعاء الجيش إلى معترك ليس من اختصاصه، ويجب ألا يكون. هكذا يتصرف أصحاب الثروة والنفوذ فى أرزاق أصحاب الظهور المحنية، التى لاسند لها لا من القانون، ولا من الدولة بكل هيبتها. ألا ترقصون؟

•••

لم أرقص مع الفرحين لأنى رأيت ملامح الإحباط وهى ترتسم على وجوه عمال شركة كريستال بشبرا الخيمة. وهم يجلسون على رصيف وزارة القوى العاملة، بعد أن نصحهم مسئول كبير فى الوزارة بفض إضرابهم قبل أى تفاوض مع صاحب الشركة. رأيت كيف أنكسر العمال عندما اكتشفوا أن ظهرهم الوحيد فى التفاوض وهو الوزارة، هو سند لصاحب العمل. وأن عليهم أن يتخلوا طواعية عن سلاحهم الوحيد الذى منحهم إياه قانون العمل وهو الإضراب، بعد أن أصبح ظهرهم للحائط. ولم أنس أبدا ما شرحه لى أحدهم بدون فلسفة ولا تنظير قائلا: «رئيس الشركة هو من بادر بتشكيل نقابة على هواه، حتى يقطع الطريق علينا لانتخاب نقابة تجمعنا. نحن ليس لنا نقابة، ولكن اللى مجمعنا عرقنا». لم يكترث مسئول الوزارة بأن هؤلاء العمال لايحصلون على أرباحهم، ومحرمون حتى من حقهم فى معرفة ميزانية شركتهم. التى يأخذون منها مرتباتهم، مغموسة بقدر لا بأس به من مادة الرصاص، التى تتسلل إلى دمهم. ولم يكترث المسئول كثيرا برؤية ظهورهم المحنية ورقابهم الموجوعة من ثقل ما يحملونه يوميا من قوالب حديد يبلغ زنة الواحد منها 25 كيلو. ولا وجوههم الملتهبة من التعرض لنار الأفران طوال ساعات العمل. هؤلاء أيضا خرجوا من معركتهم خاسرين ما يزيد عن 50 عاملا. عادوا إلى بيوتهم مفصولين دون أن تتحقق مطالبهم فى تحسين ظروف العمل. ألا ترقصون؟

•••

حكايات النقابات العمالية أصبحت تنغص على رجال الأعمال صفوا أعمالهم، وتهدد سرية أرباحهم التى لا يريدون لأحد اقتسامها معهم. لذلك فهم على استعداد أن يدفعوا ثمنا باهظا لوأد الفكرة فى مهدها. لأنهم يدركون أن انتشار تلك النقابات فى الشركات يعنى بداية أخذ الحقوق. وهو أبغض الحلال عند هؤلاء الذين يجمعون بين الثروة، والنفوذ، ورقاب الناس فى قبضة واحدة. ولا يريدون لها فكاكا. ألا ترقصون؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved