«وعى إسلامى مختلف».. حينما يتصالح الدين مع البشر!

أحمد عبدربه
أحمد عبدربه

آخر تحديث: السبت 25 يونيو 2016 - 9:05 م بتوقيت القاهرة

ما هو الإسلام تحديدا؟ سؤال تبدو الإجابة عنه سهلة ولكنى أدعى أنها ليست كذلك! وفقا لإيمان المسلم فالرسول محمد (عليه الصلاة والسلام) هو خاتم الأنبياء والمرسلين، وبالتالى فإن الوحى قد توقف عن النزول منذ عشرات القرون وهذا مما لا خلاف عليه بين علماء المسلمين. أصبح المسلمون المعاصرون، وفقا لهذا الاتفاق، مطالبين بالإيمان برسالة لم يروها رؤيا العين ولم يعاصروها أو حتى يعاصروا من عاصرها وهكذا هو حال باقى الأديان، فأصبح الإيمان هنا هو نظريا بالرسالة كما أنزلت على الرسول، ولكن فى الواقع فإن الإيمان أضحى بالكيفية التى نقلت بها الرسالة عبر أكثر من أربعة عشر قرنا، وهنا جوهر المشكلة!

خلال أكثر من أربعة عشر قرنا وبعد وفاة الرسول اتسع نطاق الإيمان بالرسالة الإسلامية على مستويين أفقيا ورأسيا. فرأسيا، استمرت الرسالة حتى وقتنا هذا ومرت من كل التحولات التاريخية الكبرى فى المنطقة العربية وفى العالم، كما أنها انتشرت أفقيا أيضا، فتحول الإسلام من دين محلى يؤمن به أقلية عددية تقطن شبه الجزيرة العربية إلى دين عالمى يؤمن به ملايين البشر فى كل أنحاء العالم تقريبا.

هنا نسأل ماذا حدث للرسالة الإسلامية خلال هذا التمدد؟ الإجابة النموذجية التى يفضل وعينا استسهالا الإيمان بها، أن الدين واحد غير متغير وأنه صالح لكل مكان وزمان! لكن الواقع يختلف كثيرا جدا عن هذه الإجابة المريحة! فخلال عملية التطور الرأسى عبر الزمن فإن تحولات وثورات تكنولوجية وثقافية وسياسية واجتماعية واقتصادية قد جعلت طبيعة الأرض والإنسان والأبنية / الهياكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التى يتعامل معها المؤمن بالرسالة تختلف كثيرا جدا عن تلك التى كانت موجودة فى هذه اللحظة التاريخية التى نزل فيها الوحى على الرسول قبل عشرات القرون. فقد تغيرت بنية الدولة وبنية النظام الدولى وبنية وقواعد التفاعلات بين البشر، قواعد الحرب والسلام ومعايير ومقاييس القوة وتعريف المواطنة والمواطن والأرض والانتماء والحدود والسيادة.. إلخ! اختصرت المسافات وتعددت العلاقات وتزايد البشر وتغيرت البيئة بكل معطياتها.
كذلك فإن التمدد الأفقى للرسالة الإسلامية جعلها تواجه ثقافات وظروف مادية مغايرة لتلك المنطقة الصحراوية البدائية التى نزلت فيها الرسالة أولا! صحراوية البيئة التى احتضنت الرسالة أولا وبدائيتها مع محدودية اللحظة التاريخية التى تفاعلت معها هى أمور لا تعيب الرسالة ولا تنتقص منها؛ فهكذا كانت البيئات واللحظات التى ولدت بها وفيها أديان أخرى، ولكن الإقرار بطبيعتها المختلفة كليا وجذريا مهم كى نفهم أن «الدين» هو ظاهرة اجتماعية وثقافية وسياسية وليس مجرد رسالة ووحى وكتاب مقدس! بعبارة أخرى فإن الرسالة كما نزلت «نقية» على الرسول وطبقت بنفس هذا النقاء خلال حياته، فإنها لم تعد كذلك الآن وهذا من طبيعة ومنطق الأمور ومن سنن الله لتطور الحياة!

***

نحن الآن لدينا شيعة وسنة ودروز وعلوية وإسماعيلية وعشرات إن لم يكن مئات من الطوائف الأخرى للمسلمين، وكان هذا ضمن ما كان نتيجة لتفاعلات سياسية وتاريخية بعيدة تمام البعد عن لحظة نزول الرسالة. لست هنا مهتما بمن فى الجنة ومن فى النار، ولا أريد التعليق على تكفير هذه الطوائف/المذاهب لبعضها البعض، لكن فقط أذكر بحقيقة التعددية حتى داخل الدين نفسه بسبب هذا التوسع الأفقى! بل أننا حتى لو قمنا بمقارنة الطريقة التى يمارس بها الدين الإسلامى فى مصر والمملكة العربية السعودية وتركيا، فسنجد اختلافات رهيبة رغم أن الدول الثلاث المذكورة تقطنها أغلبيات عددية سنية! بل نستطيع أن نرى أنه حتى داخل الدولة الواحدة فإن العادات والتقاليد تغلب الدين وتطبعه بطباعها بوضوح، خذ على سبيل المثال وليس الحصر قضية ميراث الفتيات فى الصعيد وفى بعض مناطق الدلتا!

هنا المشكلة تكون أكثر وضوحا، هذه التطورات العنيفة، أفقيا ورأسيا والتى من خلالها طغت المادة على الروح، وأصبح الإنسان مثقلا بأعباء الحياة وتحدياتها، كما أنه أصبح محاطا بمستحدثات عصرية لا منتهية غالبا (خصوصا فى الدول ذات الأغلبيات المسلمة)، هو مستقبل لها وغير مشارك فى صنعها، فإن الجمود فى عملية تفسير النصوص (رغم الادعاء بأن الدين صالح لكل زمان ومكان) أحدث هوة شديدة بين الإنسان والدين، فتزايدت أسباب التشكيك والارتباك والإلحاد! فالتفاسير التى تبنى عليها فتاوى دينية جعلت الدين (كرسالة) فى واد، والمؤمنين به (الدين كظاهرة اجتماعية وثقافية وسياسية) فى واد آخر! إذا أضفنا إلى ذلك أن الكثير من الممارسات الدينية عبر الزمن قد اختلطت بالسياسة وبالعادات والتقاليد، وبالتالى بعوامل القوة والتأثير والإخضاع والسيطرة وغيرها من قواعد اللعبة السياسية المنضبطة ثقافيا أو جهويا؛ فإن الدين (ككائن اجتماعى ثقافى سياسى) تحول من رسالة تدعو إلى العدل والإنصاف والمساواة وتقر بالحرية والتعددية إلى نظام سلطوى للتحكم فى البشر وإخضاعهم (اختلاطا بالجمود) مما تسبب فى ردود فعل سياسية واجتماعية عنيفة تمثلت فى ترك الدين أو تحديه أو الغضب منه أو الإيمان بعدم جدواه...إلخ.

***

ماذا فعلت المجتمعات غير الإسلامية حينما واجهت الظاهرة نفسها؟ كان الحل ببساطة فى عملية «الإصلاح الدينى» والتى ارتكزت على محاولة التوفيق بين الدين كرسالة والدين ككائن اجتماعى وسياسى وثقافى، وبناء عليه تمت عملية الإصلاح مرتكزة على أربعة محاور على النحو التالى:

المحور الأول هو «تكييف الدين تاريخيا» أى إزالة ما اعترى الرسالة من تحجر فى الفهم عبر قرون من الجمود الفكرى والحساسيات المفرطة للتعامل مع مستحدثات الأمور؛ عن طريق التوفيق بين «الهدف الأسمى» من الرسالة (المقاصد فى المسمى الإسلامى) وبين مستحدثات الحياة غير المنتهية. هذا التحديث كان بمثابة إعادة الحياة إلى الرسالة ومحاولة تأطيرها تاريخيا لإعادة فهمها، والأهم مصالحتها على البشر المؤمنين بها ممن عانوا من جمودها لفترات طويلة! وهذا المحور مهم لأنه لا يعنى دعوة المؤمنين للتصالح مع الدين، ولكنه يعنى دعوة الدين للتصالح مع المؤمنين أو غير المؤمنين به بعد سنوات أو عقود من الفرقة، وهو ما يستلزم جهدا استثنائيا وإبداعيا وحرا من علماء الدين ورجاله.

المحور الثانى هو «تكييف الدين اجتماعيا»، أى إعادة ضبط بوصلة مكوناته (تفاسير، قصص، فتاوى، عبادات، معاملات...إلخ) كى يتواءم مع المجتمعات التى ينتشر بها ليتجاوب مع عاداتها وتقاليدها وظروفها التاريخية وطبيعة البشر بها بما يحقق هدف «العالمية» التى تسعى إليها الرسالة. هذا يعنى أن طريقة التفسير وشرح القصص والفتاوى التى تمارس فى المملكة العربية السعودية لا يمكن فرضها فرضا على دولة مثل مصر كما يحدث الآن! كما أن طريقة فهم الرسالة الإسلامية وتفعيلها فى مصر لا يمكن فرضها على تركيا أو تونس وهكذا! هذا المحور يعنى إعادة فهم معنى «عالمية» الرسالة، وصلاحية الدين لكل زمان ومكان بحيث لا تعنى أن نطبق معنى موحدا جامدا للرسالة كما نعتقد بصحتها، ولكن نكتفى بتطبيق مقاصدها مع تنوع أشكال هذا التطبيق واختلافه بحسب الأزمنة والأمكنة.

***

المحور الثالث هو «تكييف الدين بشريا» أو بعبارة أخرى «أنسنة الدين»، وهو ما يعنى أن نعيد بوصلة الدين لتكون إنسانية، لتكون موجهة للإنسان الناقص، الإنسان الغاضب، الإنسان الخاطئ، الإنسان المرتبك، الإنسان المظلوم، الإنسان الأقل حظا فى الحياة، الإنسان المختلف، الإنسان الذى ينتابه الشك. الدين وفقا لهذا المحور هو لغير المؤمن قبل المؤمن، هو للبشر الناقص لا للقديسين، للفقير قبل الغنى، للشعب قبل السلطان، لمن قست عليهم الحياة قبل من أنعمتهم، وهو ما يعنى مرة أخرى مصالحة الدين للإنسان لا العكس عن طريق إعادة الاعتبار للبعد «الفردى» لعلاقة الإنسان بالله، المتغير بالثابت، المدنس بالمقدس، الناقص بالكامل، والتوقف عن إعطاء الأولوية للبعد «الجمعى» الذى حول الدين ولايزال إلى طقوس جامدة تعبيرا عن علاقات القوة للسيطرة والإخضاع!

المحور الرابع والأخير هو «إعادة تكييف الدين هيكليا»، أى القيام بعملية إصلاح مؤسسى شامل نحو إعادة فهم «فلسفة» ودور «دور العبادة» سياسيا واجتماعيا وتنمويا لا من خلال حرمانها من ممارسة هذه الأدوار، فهذا من المستحيل تحقيقه كما أشرت إلى ذلك فى سلسلة مقالات سابقة عن العلمانية، ولكن من خلال إعادة صياغة تلك العلاقة بما يضمن استقلالية دور العبادة وتمكنها من القيام بأدوارها الروحية بالإضافة للتنموية والسياسية وفقا لاتفاق مجتمعى يتحقق من خلال الدستور والقانون.

***

تحقيق المحاور الأربعة سالفة الذكر ليس أمرا سهلا، لكنه أيضا ليس مستحيلا! كما أننا لسنا مطالبين بالتطبيق الحرفى لهذه المحاور، فقط نتعلم من خبرتها ونعيد صياغتها! الأمر يحتاج إلى إعادة النظر للكيفية التى يفهم الناس بها الدين (مؤمنين أو غير مؤمنين)، فنحن نعتقد أن الدين الذى يؤمن به الناس هو «الرسالة النقية كما أنزلت»، لكن الحقيقة أن الدين الذى يؤمن به الناس هو المدلول الاجتماعى والثقافى والسياسى الذى نقلت به الرسالة عبر الأزمنة والأمكنة، فهل نعيد حسابتنا ونبدأ هذه العملية المحورية لإعادة تشكيل وعى مختلف للمسلمين؟

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved