أنا المحبوبة السمراء

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 25 يونيو 2016 - 8:55 م بتوقيت القاهرة

لا أحب شرب القهوة، لكن هذا لا يمنع أننى أعشق رائحتها فى الصباحات الرائقة وأتفهم من يشتهيها ويفتقدها فى نهار رمضان، فهناك ما يجذبنى فى الطقوس المرتبطة بها، شىء ما يتعلق بصوت الرشفة وخبطة الفنجان على الطبق أو تحريكها على النار والتمهل فى تحضيرها.

لست من هؤلاء الذين يحتاجون لرائحة القهوة ليقفوا على قدمهم أو ليتماسكوا، لكنى أحب تلك الرائحة التى ثبت قبل عدة سنوات على يد مجموعة من الباحثين فى جامعة سيول بكوريا الجنوبية أن سر تعديل المزاج يكمن فى الرائحة أكثر منه فى الطعم، وأن رائحة حبات البن المحمصة لها تأثير فسيولوجى إيجابى على الجهاز العصبى للفرد وتقلل من نسبة التوتر والإحساس بالنعاس.

***

أسعد عندما يقول لى أحدهم إنه يفضل فنجان القهوة من يدى، فهذا يعنى أن لى منزلة خاصة لديه، لأن مذاق القهوة يختلف تبعا لأصحابها ولليد التى تصنعها وتحركها، كما يصف محمود درويش فى العديد من كتاباته، منها «ذاكرة للنسيان»، موضحا أنه لا قهوة تشبه قهوة أخرى وأنه «ليس هناك مذاق اسمه مذاق القهوة، فالقهوة ليست مفهوما وليست مادة واحدة، وليست مطلقا. لكل شخص قهوته الخاصة إلى حد أقيس معه درجة ذوق الشخص وأناقته النفسية بمذاق قهوته. ثمة قهوة لها مذاق الكزبرة، ذلك يعنى أن مطبخ السيدة ليس مرتبا. وثمة قهوة لها مذاق عصير الخروب، ذلك يعنى أن صاحب البيت بخيل. وثمة قهوة لها رائحة العطر، ذلك يعنى أن السيدة شديدة الاهتمام بمظاهر الأشياء. وثمة قهوة لها ملمس الطحلب فى الفم، ذلك يعنى أن صاحبها يسارى طفولى. وثمة قهوة لها مذاق القدم من فرط ما تقلب البن فى الماء الساخن، ذلك يعنى أن صاحبها يمينى متطرف. وثمة قهوة لها مذاق الهال الطاغى، ذلك يعنى أن السيدة محدثة نعمة». درويش نفسه كان ضمن من تربوا على التغنى بالقهوة ورائحتها وفك رموزها، ضمن من حفظوا وهم صغار أبيات شعر وردت فى كتاب اللغة العربية لرائد التربية المقدسى خليل السكاكينى، تقول: «أنا المحبوبة السمراء وأجلى بالفناجين، وريح العطر هند، وذكرى شاع فى الصين». أبيات تربى عليها الكثيرون من أبناء جيله الذين قد تجمعهم القهوة ورائحتها فى المنافى ليتحدثون عن محبوباتهم السمراوات.

***

تتغلغل الرائحة فى المنزل ونتأمل معها الذكريات، هنا وهناك: مشهد الجدة وهى تجلس مع صاحبتها بكامل أناقتهما لاحتساء فنجان القهوة، وقد استقطعتا ساعة من النهار، وسط مشاغلهما، للتسامر حول «سبرتاية» نحاسية خصصت لتحضير القهوة بالبن المحوج الطازج الذى اشترته إحداهما. ثم جلسة النميمة البريئة التى تصاحب طقس قلب الفنجان، إيذانا بقراءته وفك طلاسم نقوش البن على جداره الأبيض. وهى عادة يونانية أو تركية انتشرت فى البلاد التابعة للإمبراطورية العثمانية القديمة، ومعها أيضا انتشرت عادة أخرى أوشكت على الاختفاء ألا وهى طقس تحضير العروس لفنجان قهوة تركى لاختبار مهارتها كست بيت ولقياس مدى قبولها لزوج المستقبل، فإذا وضعت له ملح فى القهوة بدلا من السكر ففى ذلك إشارة له بالرفض.

على مدى أربعة قرون هى عمر الإمبراطورية العثمانية تكون ميراث من العادات والطقوس ووصفات الأكل. تداخلت السياسة والجغرافيا فى تكوين المزاج العام لشعوب تلك المنطقة، وأصبح الصراع يتبدى أحيانا فى صورة نزاع على براءة اختراع هذه الأكلة أو تلك مثل الكشك والسميط والبقلاوة والزبادى أو على أحقية تسمية القهوة، ما وضع منظمة اليونسكو فى مأزق عام 2013، إذ كان لزاما عليها أن تفصل فى كون مشروب القهوة تركى الأصل أم يونانى، وجاءت النتيجة لصالح تركيا وسجلت القهوة عالميا باسمها. لكن هذا لا يمنع أن ينظر لك أحدهم شزرا ويصوبك إذا كنت فى إحدى الجزر اليونانية وطلبت فنجان قهوة تركى، بحكم العادة، فيرد فورا: تقصد قهوة يونانية، ثم يأتى لك بفنجان أبيض صغير ترتشف منه وتحملق فى المارة ذهابا وإيابا وأنت جالس قبالة البحر المتوسط.

***

الأمور والحساسيات السياسية تتغير بحكم الظروف، فحتى سبعينيات القرن الماضى لم يكن هنالك حرج فى طلب «قهوة تركى» فى اليونان، حتى شب نزاع بين الدولتين حول جزيرة قبرص، وتم تقسيمها بينهما، ومن هنا احتدم الجدال حول القهوة. أى أن المزاج العام يتقلب وأحيانا ينعدم نظرا لكثرة الضغوطات السياسية والاقتصادية، فيصبح لا شىء يهم، لا شىء ممتعا.. تنعدم خصوصية الفارق بين هذا وذاك، نجد الأشخاص لا يستمتعون بالطقس ولا يميزون الطعم أو جودة الأشياء. وقتها نعى أن ثمة مشكلة فى التعامل مع الحياة. لكن يظل البعض منا يقاوم، يحاول الاحتفاظ بنكهة العيش ومتعة الصمت الصباحى مع فنجان القهوة، ويستسلم لسحر الرائحة، بل ويتوقف عند تفاصيلها.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved