الأشياء تحزن

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 25 يونيو 2019 - 9:55 م بتوقيت القاهرة

عشت فى مدن عديدة وسكنت بيوتا أكثر عددا. أكاد بالفعل أخطئ فى تحديد عددها. الغريب أننى فى الأصل نشأت فى بيئة وتقاليد تحرض الشاب على أن يتزوج وينجب فى البيت الذى ولد ونشأ فيه. قيل إن أمى، وهى العروس وقريبة أبى، انتقلت من بيت أمها الملاصق لتعيش فى بيت أهل زوجها. هناك عاشت سنوات حتى انتهى والدى من مرحلة التعليم وأجبرته الوظيفة الحكومية على الانتقال من الحى الذى ولد فيه هو وأمى إلى حى قريب من «الديوان». عرفت بعد حين أننا انتقلنا بشروط أهمها أن تقضى أمى وأولادها عطلة نهاية الأسبوع فى بيت عائلتها وفى نفس غرفتها التى عاشت فيها مع أخواتها ولم تغادرها إلا لتتزوج. سكنت مع أهلى فى البيت القريب من الديوان طوال مرحلة مراهقتى وانتقلنا منه إلى بيت آخر عشت فيه مدة عام رحلت بعدها إلى الخارج.

***
لا أذكر أن علاقة خاصة نشأت بينى وبين مسكن سكنته. لا أذكر أننى تركت آسفا أو حزينا مسكنا من كل المساكن التى سكنتها على امتداد سنوات العمل فى الخارج أو فى مصر. لاحظ أصدقاء هذا الأمر وناقشوه فيما بينهم ومعى أحيانا. سمعت منهم، وبينهم خبير وآخر متخصص، استنتاجا مثيرا. استنتجوا أننى تعرضت لصدمة أو أكثر عندما انتقلنا من مسكن تشاركنى فيه عائلة ممتدة إلى مسكن ضمن عائلة محدودة العدد وقليلة الصخب والزوار والمفاجآت. تعقدت الحالة، فى رأى هؤلاء الخبراء من الأصدقاء، عندما انتقلت إلى مرحلة أخرى فى الحياة أهم سماتها التنقل غير المنتظم وأحيانا غير المبرر. سكنت مرارا، وبالتحديد فى مدينتى روما وبيونس آيرس فى شقق لا أملك معظم محتوياتها وبخاصة أثاثها. وفى إحدى المرات لم نمكث فى بيت أكثر من أسابيع قليلة انتهت بصدور قرار من القاهرة بنقلى وعائلتى إلى عاصمة دولة أخرى، قرار لم يكن هناك ما يبرره أخلاقيا ولا مهنيا، ولا تزال رواسبه وآثاره تذكرنى بمرحلة هى بلا شك الأصعب فى حياتى المهنية والسياسية. كانت أيضا بين المراحل الأصعب ماديا.

***
كان طبيعيا ألا تنشأ علاقات من نوع خاص بينى وبين أشياء لا أملكها. علاقاتى بأغلب الأشياء التى تعاملت معها فى بيوت سكنتها خضعت لقواعد باردة أشبه بقواعد حكمت علاقاتى بمعارف من البشر التقيتهم فى رحلة قطار أو قاعة انتظار بمطار قضيت معهم وقتا طويلا أو قصيرا وافترقنا فراح كل منا إلى حال سبيله. شقق وبيوت عديدة سكنتها لم تتعلق بى ولم أتعلق بها. نعم هناك الذكريات. ذكريات ليست كالذكريات. لا أظن أن بينها ما تعلق بشىء معين كوسادة بعينها أو طاقم حديقة بعينه. كيف يكون بينها حنان إلى قطعة أثاث لم أمتلكها ولا حتى ائتمنتها على أسرارنا وخصوصياتنا. هذه الأشياء كانت دائما مثل رقيب أو دخيل مفروض علينا وعلى ضيوفنا. لم يختلف هذا النوع من الشعور كثيرا عن نوع يرافق إقامتنا فى كل الفنادق التى نزلنا بها. لا يعنى هذا أننى لم أعجب بلوحة رائعة كانت فى شقة استأجرناها بشارع ليبرتادور فى بيونس آيرس وأوصتنا بها خيرا مالكة الشقة. ولا يعنى أننا لم نقض أياما سعيدة وبهيجة فى روما فى شقة بسيطة الأثاث فى بناية تطل على شارع تسكنه شريحة من موظفى الطبقة الوسطى الإيطالية. قضينا فيها أياما حقا طيبة وأحلى كثيرا من شهور قضيناها فى شقة أخرى مفروشة بأرقى أحياء العاصمة الإيطالية، كان يسكنها قبلى زميل وصديق عزيز. الأولى استضفت فيها أستاذا فى جامعة القاهرة وعروسه فى أوائل أيام شهر عسلهما. أما الثانية فكان من حظها السعيد أن يستخدم أشيائها زميل فى قنصليتنا بميلانو ويلتقى فيها بعروسه فى ليلتهما الأولى بعد أن تعذر عليه السفر إلى ميلانو فى قطار الليل. عاشت العروس إلى يومنا تشيد بالراحة والاستعدادات التى وجدتها فى انتظارها بشقتنا فى حى باريولى الأنيق. لم أظن يوما أن قطعة من أثاث هذه الشقة أو تلك سوف تتذكر بالحنين أو بالشغف هاتين المناسبتين أو غيرهما من مناسبات عديدة. مثل هذه الشقق المؤجرة ومفروشاتها المستعملة عائلة بعد عائلة وضيوفا وراء ضيوف لم يكن يخطر على بالى أنها يمكن أن تحزن لرحيلى أو يمكن أن تتذكر لحظة حب بعينها كانت شاهدة عليها أو طرفا فيها. كيف تذكرنى بعد أن فرقت بيننا من السنين خمسون سنة أو ما يزيد، كيف تذكرنى وقد بلى من أطرافها وكسوتها ما بلى وتحملت من قسوة الزمان وغدر الإنسان ما لا يتحمله شىء آخر أو كيان عادى.

***
زارتنى صديقة تعرف عما يحدث وراء الطبيعة أكثر من كثيرين بحثوا وتعمقوا وتفلسفوا. قالت: «جئت أساعد فى لملمة أوراقك ورفع معنوياتك وأنت تستعد للانتقال إلى بيت آخر فى الضواحى. تفهمت مبرراتك فى المرة الماضية، أى قبل أربع أو خمس سنوات. أذكر أنك تعللت بالحاجة إلى أن تبتعد عن أشياء فى البيت لبعض الوقت. أتفهم أيضا مبرراتك هذه المرة. أسمعك تتعلل بالضجيج الذى تصدره آلات الحفر والغوص فى بطن شارع جامعة الدول العربية وتشكو من الحال الذى تدنى إليه حى المهندسين.

أقدر يا صديقى أسبابك وشكواك ودوافع بحثك عن مكان هادئ تعيش فيه «أحلى أيام عمرك» كما تسميها. أنت جئت إلى هذا الحى عندما كانت أرضه مزارع وأغلب كائناته قطعان ماعز وبدويات ممتطيات ظهور حمير وبدا من الخريطة الأولية أن حى المهندسين مخطط له أن يكون نموذجا لما يجب أن تكون عليه ضاحية من ضواحى عاصمة محترمة كالقاهرة. أنت تقارن بين عصر وعصر، تقارن بين حلم ووهم، بين الممكن والمستحيل، بين الجمال والقبح.

جئت إليك أملا فى تخفيف عبء النقل عليك، ولكنى جئت لسبب يخصنى وربما لا يهمك. جئت عندما نقلوا عنك رغبتك فى الاستفادة من خبرة سباك يستطيع إصلاح مواسير مياه مثقوبة ومواسير مسدودة. وفى اليوم التالى أبلغونى بحاجتك إلى فنى كهرباء يشفى علل شبكة الكهرباء التى توقفت عن العمل بدون سابق إنذار. وفى مساء اليوم ذاته جاءت نتيجة تقرير مبعوث شركة البرادات عن براد توقفت مروحة الفريزر الخاص به. وبينما كنا على الهاتف نقيم الوضع سمعت صوت السيدة التى تساعد فى منزلك تعلن أن جهاز التكييف الذى عمل طول اليوم كان يسمح للمياه التى ينتجها بالخروج إلى داخل البيت بدلا من التساقط خارجه فوق رءوس المارة.

عزيزى سوف اسمعك ما لن يعجبك. ما يحدث فى بيتك الآن لا يخرج عن كونه تمرد «أشياء» خدشت كبرياءها. أنت فى نظرها تخون عشرتها. تتركها لأنها شاخت وتذهب لتعيش فى كنف وأحضان أشياء أصغر سنا وأقوى احتمالا وأحلى نضارة. قد يتحسن الوضع فى بيتك لو أنك اعترفت بأن للأشياء نصيبا فى عالم الأرواح ودورا فى صنع الذكريات. لا تنكر أن أكثرها ائتمنك على حياته وصحته وحافظ على عهده فكان كتوما وصادقا وأمينا.

يا صديقى، «أشياؤك حزينة».

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved