ملامح من الأزمة الروسية الأوكرانية الراهنة.. بذور ومقدمات

محمد عبدالشفيع عيسى
محمد عبدالشفيع عيسى

آخر تحديث: السبت 25 يونيو 2022 - 7:40 م بتوقيت القاهرة

الأزمة الروسية ــ الأوكرانية محصلة فى حقيقتها للتفاعل بين أمور عدة يتقدمها إصرار عنيد من المجموعة الغربية بالقيادة الأمريكية على إعادة تفعيل سياسة «الأحلاف العسكرية»، ممثلة فى محاولة إعادة الروح للكيان فاقد الحياة تقريبا خلال العقد الأخير وخاصة فترة ولاية دونالد ترامب للإدارة الأمريكيةــالجمهورية (2017ــ2021). وكان أن نهض «الجناح المتعسكر» من إدارة بايدين–(الديموقراطية)، لينفخ الروح فى «منظمة اتفاقية شمال الأطلنطى» ــ ناتو.
ولما كانت وظيفة أى حلف عسكرى، مواجهة وردع عدو مفترض، ولو باستخدام القوة المسلحة، إن لزم الأمر، فلذلك كان من الطبيعى أن يسعى مشروع الحلف المستعاد إلى بعث روحية العداء المستفحل فى المواجهة مع عدو «قديم ــ جديد»، ليس باختلاقه، فهو قائم بالفعل منذ نهايات الحرب العالمية الثانية (1945ــ..)، ولكن بإعادة توظيفه بعد أن انتهى مبرر وجوده بسقوط الحلف (الآخر ــ العدو) الذى كان فى مطلع التسعينيات، وهو «حلف وارسو» السوفيتى المنهار.
وكانت الفرصة التى جرى اهتبالها غربيا لبعث الروح فى الجسد، هى استخدام دولة «أوكرانيا» ــ إحدى جمهوريات الاتحاد السوفيتى السابق ــ «مخلب قط»، إن صح التعبير، لمحاولة تقويض الكيان الروسى المُصغر، الوارث للكيان السوفيتى الكبير. فإن لم يمكن تقويضه فإضعافه بما لا يسمح له أن يكون ندا أو أن يصير «عدوا قويا».
ولما كان للغرب تجربة ناجحة نجاحا مبهرا فى إسقاط الدولة السوفيتية العتيدة فى مطلع التسعينيات من القرن المنصرم، فلذلك كان النموذج ماثلا أمام قيادة روسية مستوعبة الدرس القديم، ممثلة فى فلاديمير بوتين، ساعية إلى عدم السماح بتكرار ما جرى فى ظرف جديد.
آنئذ فكر، وسعى، الطرف الأمريكى إلى محاولة إدخال «مخلب القط» الأوكرانى عضوا فى التحالف العسكرى، ومن ثم اتخاذه مدخلا لبعث سياسة الأحلاف من جديد، بنفخ الروح فى حلف ليس أمامه حلف آخر أو أحلاف، ولكنه وحيد، فى مواجهة عدو بل وأعداء عديدين.
وسرعان ما فهم الطرف الروسى «اللعبة» فحاول مقاومتها سياسيا ودعائيا، وقدم جملة مطالب أمنية للطرف الآخر الذى رفضها كما هو متوقع، ليضع القيادة الروسية فى موقع «الدفاع الهجومى» الذى لا خيار أمامه سواه، عن طريق استخدام القوة لمنع الاحتمال الطارئ، فكان تطبيقا للقول السائر (لابد مما ليس منه بد). ووقعت الواقعة فيما أسماه الطرف الروسى بالعملية العسكرية الخاصة، تلك التى بدأت بالغة الطموح وانتهى بها الأمر، فى ظل تعثر عسكرى روسى نسبى، إلى محاولة الإطباق على إقليم بعينه كمدخل لتفتيت الكيان الأوكرانى، (إقليم «دونباس»).
• • •
هكذا وقعت «ضربة مزدوجة» ذات أثر بالغ فى مسار النظام (أو «اللا نظام«) الدولى: فمن ناحية، أتاح ذلك التطور للقيادة الروسية، من جديد، ادعاء أن ما تسميه عمليتها العسكرية تقوم على تطبيق ــ غير مبرَر تماما فى الحقيقة ــ لحجة «الأمن القومى». ومن ناحية أخرى، إن ذلك أتاح للغرب إمكانية العمل على استعادة سيرة (الأحلاف العسكرية) أو (التكتلات المسلحة) فى العصر الحديث للقارة الأوروبية وما حولها، بعد غياب زهاء قرن ونصف قرن، أى منذ «الحرب السبعينية» تقريبا، والتى انتصرت فيها (ألمانيا أو – بالدقةــ «بروسيا بسمارك») على (فرنسا نابليون الثالث) ( 19 يوليو 1870ــ10 مايو 1871)، حين أعلنت الأولى قيام ألمانيا الموحدة من قصر فرساى فى قلب باريس. ومذْ ذاك انبعثت ألمانيا قوة اقتصادية وعسكرية قلبت، إلى حد بعيد، الموازين الدولية ــ الأوروبية السائدة لعدة قرون، لما كانت بريطانيا وفرنسا «بيضتىْ الميزان» دون منازع. واستطاعت الدبابات والمدفعية الألمانية أن تعيد تشكيل صورة المنظومة الدولية المقسمة أخيرا، وقبيل الحرب العالمية الأولى، بين قطبين: مجموعة دول «الوفاق» ــ بريطانيا وفرنسا وروسيا، ومجموعة دول «التحالف الثلاثى» ــ تركيا وألمانيا والنمسا. ذلك حتى اندلعت شرارة الحرب العالمية الأولى فى 28 يوليو من عام 1914 على إثر مقتل ولى عهد النمسا فى مدينة سراييفو، مستمرة حتى 11 نوفمبر 1918.
انتهت الحرب رسميا عام 1919 بعقد اتفاقات فرساى برعاية معنوية فحسب من الرئيس الأمريكى وودرو ويلسون، ومن ضمنها معاهدة الصلح (المُذِلة) مع ألمانيا، لتعقبها فترة قلقة أُسميت فيما بعد «فترة بين الحربين» لمدة عشرين عاما (1919ــ39) ومنتهية باندلاع شرارة الحرب العالمية الثانية على إثر قيام (هتلر ــ ألمانيا) بغزو بولندا. ظلت الحرب سجالا عالميا ستة أعوام بين المعسكرْين: (المحور): الألمانى ــ الإيطالى ــ اليابانى؛ و(الحلفاء): ممثلين أخيرا فى الغرب الأوروبي ــ الأمريكى والسوفييت. وعلى وقع «الإذلال الألمانى» مرتين، عقب كل من الحرب العالمية الأولى والحرب العالمية الثانية، أقيم نظام دولى جديد حقا، بعد 1945، قيل له (نظام ما بعد الحرب)، لم يسبق له نظير فى العصور الحديثة.
كانت القاعدة التشريعية ــ التنظيمية للنظام الدولى المنبجِس، ميثاق ومنظمة «الأمم المتحدة» لعام 1945، وقاعدته السياسية ــ العسكرية، تعادل تقريبى لقوة الردع العسكرية والسياسية بين القطبين البازغين فى طرفين متقابليْن شرقا وغربا: الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى. وإن ظل التفوق الاقتصادى النسبى يميل بشدة تجاه القطب الأمريكى ذى ثلاث شعب: الولايات المتحدة وأوروبا الغربية واليابان، كتجسيد لما يسمى «المركز الرأسمالى الثلاثى».
وظل هذا هو الحال حتى سقوط القطب الثانى السوفيتى عام 1991 بعد سجال طويل، وليقوم من بعده نظام مؤسس على هيمنة «القوة العظمى الوحيدة» ــ الولايات المتحدة ــ منذ ذلك العام وحتى الآن.
ولقد ورثت «القوة العظمى الوحيدة» منظومة دولية كاملة من الحقبة التى سبقتها (جاهزة تقريبا)، حاولت تكييفها (على مقاسها)، باستخدام القوة العسكرية (أعمال الحرب والتدخل العسكرى والغزو التى بلغت ذروتها فى الغزو المزدوج للعراق وأفغانستان 2001،2003. وكذا بالهيمنة الاقتصادية على قاعدة من التفوق التكنولوجى المقارَن إزاء كل من أوروبا واليابان، وما يسمى «الإمبريالية المالية ــ النقدية» وفق نسيج متجانس ذى قماش متين مكون من هيمنة الدولار، والنظام المصرفى الأمريكى ونظام التحويل المالى ــ «سويفت»، ومن التعَمْلق النسبى الساحق للشركات عابرة الجنسيات ذات المنشأ الأمريكى بالذات، وفى عقر دار أوروبا الغربية بالذات.
وعلى الطريق الطويل لتكون وتعمْلق ««القوة العظمى الوحيدة» خلال مرحلة (1990ــ..) ومن قبلها مرحلة القطبية الثانية (1945ــ1990)، استطاعت تلك الدولة الإطاحة بالاتحاد السوفيتى ومعها وقبلها، وبُعَيْدها مباشرة، أطاحت كذلك بالتفوق التكنولوجى اليابانى ( Japan as No.1) خلال التسعينيات. بل أطاحت الولايات المتحدة أخيرا بالمشروع الأوروبى التوحيدى بعد اكتماله عام 2000 باعتماد «العملة الموحدة» (يورو) وبالسوق الواحدة أيضا Single market. وخلال عقد قلِق، وقعت الأزمة المالية العالمية 2008ــ2009 لتطيح بدورها بالاتحاد النقدى ــ المالى البازغ (منطقة اليورو) (انظر جوزيف ستجلتز، اليورو، كيف تهدد العملة الموحدة مستقبل أوروبا، ترجمة أ. مجدى صبحى، سلسلة «عالم المعرفة»، جزءان، سبتمبر وأكتوبر 2019). ومن بعد ذلك، فإن الولايات المتحدة الأمريكية ــ «القوة العظمى الوحيدة» Lonely Super Power قد تربعت على عرش الاقتصاد والعسكرية والدبلوماسية العالمية دون منازع طوال عقد ونيف حتى الآن، عدا منازعة اقتصادية محقة من جانب الصين، وندية نووية، استراتيجية وخاصة تكتيكية، من جانب روسيا.
• • •
هكذا إذن سقط الغرماء الثلاثة واحدا تلو الآخر عبر حقبة لا تتجاوز ثلاثين عاما (الاتحاد السوفيتى ــ اليابان ــ أوروبا الموحدة) لتجىء الأزمة الروسية ــ الأوكرانية الراهنة ربما علامة على انبثاق حقبة دولية جديدة بدورها، ربما حقبة انفراط عقد المنظومة الدولية كلها، أو انبثاق قاعدة سياسية ــ اقتصادية ــ عسكرية جديدة لا تحكمها قوة عظمى وحيدة، وإنما قوة أو قوى معلومة أو غير معلومة.
ومن عجب فى ضوء كل ما سبق، أن يتنادى الأوروبيون يقودهم الأمريكيون، بمشروع ضم أوكرانيا ــ «مخلب القط» ــ إلى الاتحاد الأوروبى، الذى لم يعد قائما فى الحقيقة، إلا حطاما..!، بل و«منطقة اليورو» أيضا ــ فعلام الجلَبَة، ولم تلك الضوضاء إذن؟ وأليس فى الإعلام الدولى وعالم الدبلوماسية العالمية رجل رشيد..؟
هذا، ولا يزال فى الجعبة حديث سوف نسميه «الدروس غير المستفادة من الأزمة الروسية ــ الأوكرانية الراهنة» على صعيديْن: التكنولوجيا مقابل الأنْسَنة، والانتشار النووى مقابل الحرب الكونية.

أستاذ باحث فى اقتصاديات التنمية والعلاقات الدولية

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved