الحرب على الذاكرة الوطنية

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 25 يوليه 2021 - 6:55 م بتوقيت القاهرة

أعز ما يملكه أى شعب ذاكرته الوطنية، القضايا التى تبناها والمعارك التى خاضها والأثمان التى دفعها لكى يرفع رأسه عاليا، والأخطاء التى ارتكبت حتى لا تتكرر مرة أخرى.
هناك فارق جوهرى بين المراجعة بالنقد والتهجم بالتجهيل.
رغم مرور (65) عاما على تأميم قناة السويس فإن هناك من يطلب إلغاء التاريخ بمعانيه وتضحياته وتبعاته الاستراتيجية.
تحمل «جمال عبدالناصر» مسئولية القرار، لكنه لم يكن لينجح لولا استعداد الشعب المصرى أن يدفع باقتناع كامل أثمان استقلاله الوطنى من دم أبنائه.
هنا ــ بالضبط ــ موضوع الغارات المتعاقبة على الذاكرة الوطنية حتى يفقد المصرى العادى ثقته فى نفسه وفى قدرته على صنع التاريخ واكتساب حقوقه المشروعة أيا ما كانت التضحيات.
لم يكن بوسع أحد فى العالم توقع تأميم قناة السويس قبل إعلانه من فوق منصة «ميدان المنشية» بالإسكندرية فى ذلك اليوم البعيد الذى تقادمت عليه السنين، ولا كان مطروحا تسليم شركة قناة السويس إلى مصر بعد انتهاء عقد الامتياز عام (١٩٦٨).
كانت قناة السويس أهم مشروع هندسى فى العالم بالقرن التاسع عشر دولة داخل الدولة وقيدا حديديا على المصير المصرى، ومصر كلها رهينة للقناة، أهينت واستنزفت واحتلت (1882) حتى تمكنت من تأميمها منتصف القرن التالى ودفعت بالدماء ثمن استقلالها الحقيقى فى حرب السويس.
بقرار التأميم رد اعتبار الوطنية المصرية، وتمكنت دولة من العالم الثالث من تحدى الإمبراطوريتين السابقتين البريطانية والفرنسية فى صلب مصالحهما الاستراتيجية فى الشرق الأوسط، حيث منابع النفط الذى تمر حمولاته عبر قناة السويس.
جسارة التحدى تأخذ معناها الحقيقى من سياقها فى الصراع على الشرق الأوسط، فقد حاولت مصر بعد ثورة يوليو الخروج من دوائر النفوذ الاستعمارية، قاومت الأحلاف العسكرية وسياسات ملء الفراغ، كسرت احتكار التسليح بصفقة الأسلحة السوفيتية، أيدت حركات التحرير الوطنى فى العالم العربى، دعمت بالإعلام والسياسة والتمويل والسلاح الثورة الجزائرية، ولعبت دورا جوهريا فى تأسيس قوة دولية جديدة، خارج استقطاب الحرب الباردة، للدول المستقلة حديثا فى «باندونج».
السياق يشرح وينير حجم الأثر الذى خلّفه قرار تأميم قناة السويس فى الحسابات الدولية والصراعات على المنطقة، ومدى دقة حساباته لمتغيرات عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية.
بالحساب التقليدى فإنه مغامرة بالمصير بعد أسابيع من جلاء آخر جندى بريطانى عن مصر قد تُفضى إلى إعادة احتلالها من جديد، أو إطاحة نظامها بانقلاب يشبه ما تعرض له قبل سنوات قليلة الزعيم الإيرانى الدكتور «محمد مصدق»، بعد تأميمه بترول بلاده.
لم يكن ذلك الحساب التقليدى غائبا عن «عبدالناصر»، وهو يُقدم على قرار يكاد يكون شبه مستحيل، لكنه قَبل «المخاطرة المحسوبة» وعرّض مستقبله وحياته للخطر الداهم، كسبا لاستقلال وطنى حقيقى، وأن تمتلك مصر مقاديرها وقرارها.
حسب ما هو مؤكد بالأوراق والمستندات والشهادات أخذ قرار التأميم وقته فى الدراسة وجمع المعلومات، والتحضير لإدارتها بعد تأميمها.
إذا كان هناك من يعتقد أن استقلال القرار الوطنى يُمنح ولا يُنتزع فهو واهم، فلكل استقلال تكاليفه وتضحياته ومعاركه.
اكتسبت مصر استقلالها الوطنى الكامل فى حرب السويس بفواتير الدم المبذولة وشجاعة أبنائها الذين هرعوا لحمل السلاح فى مواجهة العدوان الثلاثى، البريطانى ــ الفرنسى ــ الإسرائيلى، لا بـ«اتفاقية الجلاء» التى وقّعها «عبدالناصر» نفسه عام (١٩٥٤) وانطوت على تنازلات تتيح للقوات البريطانية حق العودة لقاعدة قناة السويس، إذا ما تعرض بعض حلفائها للخطر.
هناك من يتصور أن مصر كان يمكنها تجنب العدوان عليها، إن لم يُقدم «عبدالناصر» على قرار التأميم.
بالوثائق هذا استنتاج متعجل، فلم يكن مسموحا لمصر بأن تتطلع لاكتساب قرارها الوطنى بالتأميم، أو بغير التأميم.
بحسب تقرير استخباراتى أمريكى ـ ربيع (١٩٥٦) ـ كشف عنه الأستاذ «محمد حسنين هيكل» فى كتابه «ملفات السويس»، فإن خطط الانقلاب والغزو وقتل «جمال عبدالناصر» سبقت قرار التأميم.
لم يكن كلاما فى فضاء الاجتماعات السرية، بقدر ما كان شروعا فى تحديد الأدوار قبل التنفيذ.
لم يكن رفض البنك الدولى تمويل مشروع بناء السد العالى، السبب الرئيسى لتأميم قناة السويس بالفعل ورد الفعل.
منذ احتلال مصر وهى تتطلع إلى هذا اليوم، الذى تستعيد فيه الشعور بالكبرياء الوطنى، والقدرة على الدفاع عن حقوقها الأصلية.
فكرة التأميم لم يخترعها «جمال عبدالناصر»، ولا طرأت على رأسه فجأة.
قبل «يوليو»، ترددت دعوات متناثرة تضمنتها ـ أحيانا ـ دراسات تتبنى هذه الخطوة، لكنها كانت أقرب إلى الأحلام البعيدة والتخيلات المحلقة.
لم يكن أحد يتصور أن يأتى هذا اليوم فعلا، حتى إن أغلب الذين دعوا للتأميم قبل يوليو لم يحتملوا المفاجأة عندما صارحهم بها «عبدالناصر»، وهو يتأهب لإعلان قراره خشية ردات فعله.
بين الاقتراحات التى عُرضت عليه أن يقدم على «نصف تأميم» حتى لا يستثير القوى العظمى.
لم يكن مستعدا لأنصاف حلول وأنصاف تأميم «نأخذ حقنا كاملا وليكن ما يكون».
الكلام عن استعادة قناة السويس دون تأميم، أو قتال، أقرب إلى الخزعبلات السياسية.
بعد تحدى السويس خرجت مصر قوة إقليمية عظمى، وتحولت عاصمتها القاهرة إلى أحد المراكز الدولية، التى لا يمكن تجاهلها.
اكتسبت مصر أدوارها القيادية فى أفريقيا بوضوح سياساتها وقدرتها على المبادرة والإسناد لتحرير القارة، كما اكتسبت أوزانا استثنائية فى عالمها الثالث بإلهام أن دولة نامية واجهت تحديا شبه مستحيل وكسبته.
تحفظت الولايات المتحدة على العمل العسكرى تخطيطا وتنفيذا من خلفها دون اعتبار أنها قد آلت إليها قيادة العالم الغربى بعد الحرب العالمية الثانية.
وكان الموقف السوفيتى حاسما إلى درجة التلويح برد قد لا تحتمله فرنسا وبريطانيا.
بدا العالم كله، لأسباب متناقضة، فى جانب مصر.
تجلت فى حرب السويس حسابات عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية وحقائق القوة فيه ومدى تأثير الحركات الاستقلالية.
لم تكن مصادفة أن مصر اكتسبت قيادتها للعالم العربى والقارة الأفريقية، وتقدمت لقيادة حركة عدم الانحياز بعد ملحمة الصمود فى حرب السويس.
رغم آلاف الوثائق والشهادات والكتب التى نُشرت عن حرب السويس فإن هناك من يطلب نزع أى قيمة عن التضحيات التى بُذلت حتى يكون استقلال القرار الوطنى مستحقا.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved