مطبخ الجهات الأربع

داليا شمس
داليا شمس

آخر تحديث: السبت 25 أغسطس 2012 - 8:50 ص بتوقيت القاهرة

المواطن الصينى عندما يقابل آخر ويبادله السلام فيستفسر عن حاله، يسأله حرفيا: «هل أكلت»؟، تلك هى التحية التقليدية التى تعبر عن أهمية الطعام بالنسبة لبلد يصل تعداده إلى 1.3 مليار شخص، وقد شكلت المجاعات المتكررة علامات بارزة فى تاريخه، رغم أنه يعد حاليا ثانى أكبر قوة اقتصادية بعد الولايات المتحدة الأمريكية، إذ شغل من سنة 2010 المركز الذى احتلته اليابان منذ 1968.

 

الثروات التى حققتها الصين والتى تقدر بحوالى 6000 مليار دولار لم تمنع وجود 150 مليون فرد تحت مستوى خط الفقر الذى حددته الأمم المتحدة (أى دولار يوميا بالنسبة للفرد)، فمكاسب التنمية لا تطال الجميع، ويظل هناك الملايين الذين يحاولون ملء بطونهم مع احترام تعاليم كونفشيوس القائلة بأن الطعام ليس مجرد وظيفة عضوية بل متعة وفن.

 

•••

 

رغم ضعف الإمكانات أحيانا وقلة الأراضى الصالحة للزراعة والتى لا تتعدى مساحتها 10%، فهناك دائما حيل للاستفادة من كل ما هو متاح ووصفات بسيطة طيبة المذاق تقدم بطريقة منمنمة، ففن الطبخ الصينى يعتمد على حرفية التقطيع والطهى وعلى ثنائية «الين» و«اليانج» أى السماء والأرض، النور والظلام، الذكورى والأنثوى... ( فمثلا الخضراوات والفواكه الطازجة تنتمى لعنصر الين الأنثوى بطراوتها وعصارتها، أما اللحوم المتبلة فهى تتبع عنصر اليانج الذكورى بكل ما فيها من حرارة وقوة). وتجد هذه الطريقة فى مزج المذاق بين الحلو والحامض، بين المر والعذب، بين الساخن والبارد.. صداها وجذورها فى الفلسفة والنظرة التكاملية للكون والطب والثقافة والاقتصاد والسياسة. وهو ما حاولت إبرازه المؤلفة الصينية- ساشا جونج، وشريكها فى الكتابة، الأمريكى سكوت سليجمان، عندما أصدرا بنجاح ساحق عملا بعنوان «كتاب طهى الثورة الثقافية» (The cultural revolution cookbook). ربطت المؤلفة بشكل رائع بين قصتها الشخصية عندما كانت شابة صغيرة تم إرسالها ضمن آخرين إلى معسكر فى الريف لتعتاد نمط حياة مختلفا وتعد طعاما بما ملكت يداها، وقد خلق منها هذا المعسكر الريفى خبيرة بفن الطهى الذى تعلمته منذ سن السادسة. تقدم الكاتبة وشريكها معلومات تاريخية عن الثورة الثقافية التى أعادت ماوتسى تونج إلى سدة الحكم، معتمدا على تحركات مجموعات من الشباب عرفت بـ«الحرس الأحمر» فى الفترة من 1966 إلى 1976. تصدى هؤلاء لبعض القيم التقليدية ونشروا ملصقاتهم فى كل مكان وتمردوا على التراتبية داخل الحزب الشيوعى الصينى، ما كان يخدم بالطبع أهداف ماوتسى تونج فى الحد من سلطات البيروقراطية وتطهير الحزب من العناصر غير المرغوب فيها ليترأسه هو من جديد.. ذلك بعد أن فشلت خطته فى الإصلاح والتحديث أو مشروع «القفزة الكبرى إلى الأمام» الذى تبناه وهو فى الستينيات من عمره وتحول إلى قفزة باتجاه المجاعة، إذ قضى عدد كبير من الموتى ( من 20 إلى 43 مليون صينى) بسبب المجاعة ونتيجة لبرامجه الاقتصادية فى الفترة ما بين 1958 و1961. ثم بعدها خلال الثورة الثقافية توفى حوالى 20 مليون آخرين لسوء الأحوال والعنف، بعضهم تم قتله وأكل لحمه.. كان الجوع هو العقاب الأول، وكان الطعام يوزع بالملعقة، وعندئذ كانت المؤلفة ــ ساشا جونج ــ تعد الوجبات التى وضعت وصفاتها فى الصفحة المقابلة للنبذة التاريخية حول الثورة الثقافية وارتباط الأطباق المقدمة بها. 

 

•••

 

تطهى العديد من الوجبات الصينية بتقليبها سريعا على النار حتى لا تهدر الطاقة، كما لا تترك جزءا من الحيوان دون توظيفه (الأمعاء، الرأس، الغضاريف...)، وعلى هذا النحو يمكننا رصد حوالى خمسة آلاف طبخة صينية متنوعة، فهناك مزحة شهيرة تقول إن الصينيين يأكلون كل ما يمشى على الأرض باستثناء العربات، وكل ما يطير باستثناء الطائرات، وكل ما يعوم باستثناء السفن! ولكن عندما يتعلق الأمر بمأدبة عمل أو دعوة غداء يتوقف عليها مستقبل صفقات استثمارية يغدق الصينيون على ضيفهم، فالأكل معا فى هذه الحالة يهدف إلى تحقيق أفضل النتائج بالأسلوب والكرم الصينى دون اللجوء للتفاوض المباشر على الطريقة الغربية.. سر الصين هنا يكمن فى ذلك التناغم بين الأضداد، فى مطبخ الجهات الأربع أى أقاليم جغرافية أربعة رئيسية (بكين، كانتون، شنجهاى، سيشوان) التى يحترم خصوصيتها ويجيد توظيفها بالنسبة للطهى وأشياء أخرى، فى الشمال يعتمد الغذاء على القمح لتوافره ويعتمد أكثر على الأرز جنوبا حيث أماكن زراعته.. المأدبة الصينية تجسيد لطريقة تفكير شعب يزوره الرئيس مرسى بعد غد، وحضارات الشرق القديمة لديها الكثير يمكن أن تقدمه، ليس فقط فيما يتعلق بمديح الطعام.

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved